التعليم.. التعليم.. من يبصر الخطر؟

TT

حديث ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز أول من أمس إلى قيادات الجهاز التعليمي والتربوي في البلاد، كان حديثا مهما ومباشرا وصادقا.. كعادة الملك الصريح.

لم يتوان الملك، وهو يخاطب وفدا ضم وزير التربية والتعليم ونائبيه ووكلاء الوزارة ومديري عموم تعليم البنين والبنات، في جميع مناطق المملكة، في التشديد على منع تسلل ثقافة الكراهية بين الطلاب، مطالبا ارباب العملية التربوية بالعمل على «نبذ التشدد»، وقال: «لا نريد اجتهادات خارجة». تمنى عليهم أن «يحسوا بمسؤوليتهم»، وأضاف: «أرجو أن لا تنسوا أن هناك من يراقبكم وهو ربكم الأعلى، وأنكم أمام رب ينصف ويعدل، ويمهل ولا يهمل».

الملك عبد الله لا يخفي اهتمامه بمسألة التربية والتعليم، ولا يخفى عليه أن القضاء على الارهاب يعتمد في شطر كبير منه على القضاء على «ثقافة الغلو»، هذه الثقافة التي هي مقدمة الارهابي، فلن تجد ارهابيا الا وقد مر على جسر التطرف، ثم اصبح لاحقا إرهابيا.

أعطني متعصبا صغيرا، أعطك ارهابيا كبيرا! تلك هي المعادلة.

هذا الحديث الملكي مع قادة التربية والتعليم، لم يكن الأول، وأرجح أنه لن يكون الاخير، ما دامت دواعي تكراره ومتابعته موجودة، وما دام هناك من يرعى ثقافة التعصب والغلو في المحاضن التربوية والتعليمية، ويقاوم خطوات التغيير والإصلاح والانفتاح، لسبب أو لآخر.

في السعودية تعرضت العملية التعليمية الى ما تعرضت له عند بعض جيرانها، كالكويت والأردن، من محاولة تيار محدد الهيمنة على التربية والتعليم، أو تطويع من يتسنم وزارتها الى أجندتهم.

التعليم ليس إلا مصبا تصب فيه افكار المجتمع السائدة، حسب بعض التربويين، الذين قالوا إن التعليم ليس هو الصانع الرئيسي لعقل وثقافة الطالب، بل إن الطالب يأتي من بيته ومحيطه الصغير معبأ بحمولاته السابقة. هذا التوصيف والتحديد، مع صحته، لا يلغي دور الصائغ التربوي، بل يشير إلى العلاقة الجدلية.

وفي هذا السياق كم من مرة استمعت لشكاوى البعض في السعودية ممن تعلموا في المدارس، من حوالي ثلاثة عقود يقولون: «لم نكن متطرفين، كنا نقبل اشياء لا يقبلها أولادنا الآن، وكنا نرسم ونغني، ونضحك ونمثل، ونعيش من دون الشعور بالتأزم حول مسألة الدين، كنا أناسا عاديين نعيش الدين من دون افتعال».

صدقوا، ولكن هناك اشياء تغيرت في السعودية منذ ذلك الوقت، رياح هبت على سهول البلد وجباله، وحركت مياهه، بما فيها بحيرة التعليم...

ومنذ انقضاض شباب سعوديين على بلدهم تفجيرا وقتلا وإرعابا باسم الدين، والناس تتساءل: من أين جاء هؤلاء؟!

المشكلة ليست في السؤال، لأنه ذو تكلفة منخفضة، المشكلة في الجواب، لأنه مرتفع التكاليف.. جواب يقتضي منا، كما اقتضى من غيرنا، تغييرا وتهذيبا وإلقاء للزوائد الضارة، وتحمل ألم مغادرة الاشياء التي ألفناها...

المؤشرات تتواتر على ان اصلاح التعليم وتنقيته من ثقافة التعصب، هو من أوجب الواجبات، وخط الدفاع الاول من أجل تحصين الاجيال الجديدة من هذه الثقافة المسمومة، وحين يتحدث بعض النقاد عن وجوب اصلاح مناهج التربية الدينية، تنصب عليه الاتهامات من كل حدب وصوب، تارة بالخيانة، وتارة بالأمركة... وربما بالخيانة «الوطنية»، في رطانة «أجنبية» عن القاموس الاممي الاصولي المسيس!

لكن هذا الضجيج لن يغير من الحقيقة شيئا: هناك مشكلة في «الوسط» التربوي يجب حلها.

وقد كشف بعض الباحثين السعوديين عن وجود هذه المشكلة في المقررات الدينية المدرسية، وما تشتمل عليه من اقصاء ونبذ للاخر، وأفكار لا تشجع على ارساء قيمة التسامح ابدا، من هؤلاء الباحثين الصديق الشيخ عبد العزيز القاسم، القاضي الشرعي السابق والمحامي المعروف، في بحث مهم تشارك فيه مع الباحث ابراهيم السكران، وقد قدمه كورقة عمل للحوار الوطني.

سألت القاسم: ما مصير بحثكم الذي حددتم فيه مواطن الخلل في مناهج التربية الدينية؟ فقال: «تضمنت توصيات الحوار الوطني شيئا من توصيات البحث، وانت كنت معنا في الحوار، وتعلم أنه رفعت توصيات الحوار للقيادة السعودية، وحسب علمي انه تم التعاطي معها بجدية، وكذلك بعض الجهات الرسمية الاخرى قد اخذت بعين الاهتمام توصيات البحث»، ويتابع القاسم: «حسب علمي انه جرى تعديل كثير من هذه الاخطاء الموجودة في المناهج».

المقاومة التي ابداها البعض امام اجراء اصلاح وتعديل في مناهج التربية الدينية ليست سهلة، وأذكر انني حضرت ندوة عقدت في ابها عاصمة منطقة عسير جنوب السعودية، عن المنهج الخفي والمنهج المعلن في التعليم، الندوة رعاها حاكم عسير الأمير خالد الفيصل في يوليو 2004، وكان مما قاله في كلمته، موجها نقده لمن اختطفوا التعليم، : «نحن لم نعد في عصر الغفوة الذي كنا فيه، ولن تعود الأمور كما كانت في العشرين سنة الماضية».

البعض لم يعجبهم هذا النقد فهاجموه.

كل الشواهد تشير إلى أن هناك شيئا «ما» تغير في طبيعة التعليم، براءة ما فقدت، فأصبحنا نجد طالب ابتدائية صغيرا يعود الى أمه، كما حدثني صديق عن ابنه، ليقول لها: «ماما انت لست جيدة!» وتذهل الام وتسأل: «لماذا يا ولدي؟» فيقول: «لأن الاستاذ قال لي: «هل تحجبت امك حينما سافرتم للخارج، كما ينبغي للحجاب أن يكون؟» الطفل لم يحر جوابا، وخرج بانطباع ان هناك غلطا وإثما في بيته...

هناك شغف من الاسلاميين المسيسين على الهيمنة على حقل التعليم والتربية. يحدثني وزير ونائب أردني سابق، بأن الاخوان المسلمين في الاردن انتبهوا لذلك منذ فترة، فتولى الاخواني البارز اسحاق الفرحان وزارة التربية في السبعينات، بعد حرب ايلول الاسود، التي انحاز فيها الاخوان لصف العرش الهاشمي والحكومة، نكاية بحركة فتح التي تمردت عليهم اصلا، الفرحان تولى الوزارة زهاء 14 سنة، كرس فيها الحضور الاخواني في جسم التعليم عموديا وأفقيا، وركز في البعثات الخارجية على كوادر الاخوان او من يقاربهم فكرا، الامر الذي اثمر توزعهم لاحقا على المناصب المهمة، وكان من هؤلاء عبد الله العكايلة الذي تولى الوزارة نفسها في حكومة مضر بدران اول التسعينات، وقد تمرد عليهم العكايلة لاحقا.

ويتابع السياسي الاردني: «لقد اصبح التعليم حديقة للاخوان المسلمين وتكاثروا في المراحل الدراسية، لكن تم الانتباه لكل هذه الاشياء بعد عام 1989».

وفي الكويت، لم يقصر الاسلاميون في مهاجمة وزير التربية والتعليم واستخدام سلاح الاستجواب، كما صنع النائب الاسلامي مفرج نهار ضد الوزير احمد الربعي، الاستجواب كان حول قضايا ادارية، الربعي قال لي: «تكتلوا ضدي والسبب الحقيقي هو قضية نقاب طالبات كلية الطب في المختبرات، حيث اردت منعه من المختبرات فقط، والاقتصار على القناع الطبي، وحول اختصار مادة الثقافة الاسلامية في الثانوية».

الاسلاميون استمروا في الهجوم على حقل التعليم، حتى نجحوا في استصدار قانون يقضي بمنع الاختلاط في الجامعة خلال وزارة احمد الربعي، الذي قال لي: «انا ضد هذا القانون، وقد امتنعت عن التصويت وأنا في الحكومة، ولكنني في النهاية أخضع للاغلبية».

إذن، فللتعليم معركته، وهي معركة العقول، والسعودية يجب أن تخوضها حتى لا يصبح لدينا نموذج مثل نموذج المدرسة الثانوية في محافظة الزلفي وسط البلاد، التي امتنعت عن تأدية النشيد الوطني بفعل المد الاصولي الحركي، حسب التحقيق المثير الذي نشرته جريدة «الرياض» السعودية، والذي حرك المياه الراكدة، وتبرأ اهالي الزلفي من ذلك الفعل، ولا شك في براءتهم، ولكن الشك فيمن يحاول تلويث هذه البراءة!

يجب بدء المعركة البيضاء بكل مسؤولية وتصميم، حتى نحمي المستقبل نفسه. عقول ابنائنا وبناتنا ليست حيازة احتكارية لتيار معين، انها عقول للوطن كله. عقول يجب ان تتعود على فضيلة السؤال وعادة النقد الحميدة، لا أن تحشى بمفاهيم تلقينية تقسم المجتمع الى «اهل الخير وأهل الشر»، بمعايير اشتهائية محضة.

مشكلة كبيرة أن تتحول المدرسة والجامعة الى منبر لشرذمة المجتمع، على اسس مفاهيم تنتسب للدين، منابر يهاجم فيها المفكر الفلاني والصحفي الفلاني والكاتب العلاني، لمجرد أنه اختلف مع ذلك الرمز الاسلاموي العلاني..

مدارسنا يجب أن تظل مدارج فوق الخلافات، يمارس فيها التعليم صرفا من دون تلوين ايديولوجي، هذا ما يجب ان يكون عليه الحال...

ومن هنا نقول مرة أخرى: من يسترد وديعة التعليم من أيدي البعض قبل أن نبكي على اللبن المسكوب؟!

[email protected]