حتى فرنسا تتأمرك !

TT

نكاد لا نصدق ان هذا البلد العاقل، الرصين، سليل ديكارت، يلهث هو الآخر وراء صرعات «الماركتينغ»، حتى في تقليدياته العريقة ومواسمه الأدبية الأثيرة. وها هم الفرنسيون يقبلون الدخول في لعبة الجنون الإعلاني، ويجهزون أنفسهم لاختلاق ظاهرة هاري بوتر على طريقتهم الخاصة، وكأنما في الأمر عدوى يصعب الفكاك من فيروسها. وان كانت رولينغ، قد وجدت مبررات لجعل القراء ينتظرون مؤلفاتها، بسبب دخولها في لعبة كتابة مسلسل مفهومة خيوطه وحبكته، فإن ميشال هولبيك، أقنع قُرّاءه بضرورة الاحتفاء به قبل قراءة كتابه الجديد أو معرفة اي تفصيل عنه. صدق أو لا تصدق، الفرنسيون ينتظرون، على أحر من الجمر، اليوم الأخير من هذا الشهر ليحصلوا على نسختهم من رواية «احتمالات جزيرة»، التي لا تعلم سوى قلة من عفاريت النقد، ما بداخله. وللتوضيح، فإن الذين اطّلعوا على الكتاب السري، المصاحب بحملة إعلانية فريدة، وبفيلم سينمائي، هم نخبة محدودة، لم تبح لغاية الآن بغير عبارات، هدفها إثارة الغموض لا الجلاء والوضوح. ورغم ذلك، فالصحف الفرنسية الكبيرة لا تستطيع ان تتمنّع عن تخصيص صفحاتها للكتاب الذي لم يصدر بعد ولم يقرأه النقاد، وسيل الحبر المراق هدرا حتى اللحظة، هو حول كل ما يخطر على البال إلا الكتاب. اقرأ إذن عما فعله هولبيك لتغيير دار النشر التي يتعامل معها، وحول أي طاولة، وفي أي مكان جلس المتفاوضون، وأي طعام تناولوا، والمبلغ المليوني الذي تعاقدوا حوله، والصفقة القائمة حول المؤلف، ثم لا بد ان يعنيك كيف تجسس الصحافيون على حياة هولبيك، ليعرفوا انه يزوّر سيرته الشخصية، ويغير اسمه، وتاريخ ميلاده، ألا تريد ان تعرف أيضا سيرته مع النساء وعلاقته المضطربة مع امه، وأسرار شخصيتها التي جعلته يلعب على ألف حبل ليصير نجما بارقاً، رغم انه عنصري وقح، يحتفى به في بلد هو من أشرس الدول الأوروبية دفاعاً عن حقوق الإنسان. لا تسأل كيف يشتم هولبيك المسلمين في السر والعلن، ويجرجر امام المحاكم من سنوات قليلة فقط، في دولة اوروبية، تعداد المسلمين فيها قياسيا، ثم ينال هذا القسط من الاحتضان على كتاب مجهول بقدر ما هو مشهور. فالخطط الإعلانية قادرة على اجتراح المعجزات، وإذا كانت فرنسا الحصن المنيع ضد الرأسمالية المتوحشة، يعترف نقادها اليوم أمام ظاهرة هولبيك الغريبة، انها وقعت في فخ «الرأسمالية الأدبية»، فالمستقبل واعد. وكنا قد تسلينا منذ اشهر معدودات، حين قرأنا قصة القبض على مجرمين اثنين، تجرّآ وسرقا نسخة المجلد الأخير من هاري بوتر قبل صدوره، لبيعها بمبلغ 50 الف جنيه لأحد الصحافيين، فإذا بنا نجد استنساخا للقصة في فرنسا، مع بعض التعديلات الجينية لتناسب المزاج الفرانكوفوني. إذ تقول الحكاية بأن احد الصحافيين المحظوظين، في غمرة هذا الانتظار العظيم، عثر على نسخة تائهة من كتاب هولبيك الموعود، على مقعد في مكان عام، وكان له شرف الاطلاع عليه قبل بقية الخليقة، «أي حظ هذا يفلق الصخر»!.

وفي الحالتين. فإن الوهم ينتصر على النصّ الأدبي نفسه بدون أدنى شك، مهما ارتقت مكانته، وكما تصنع الشركة الإعلامية الكبرى الرأي العام، تفبرك شقيقتها الإعلانية جمهور الكتاب وتحشدهم على أبواب المكتبات، وهي تقنعهم انهم سيشترون رغيفا أدبيا شهيا لا ندم على التهامه.

وقد لا يكون في ذلك كبير خسارة، لو توقف الأمر عند رولينغ وهولبيك، لكن الحبل على الجرار، و«تسونامي الماركتينغ» لم ترحم حليب الأطفال كي ترأف بالباحثين عن المتعة والخيال.

الأمركة ليست شراً كلها، وأهلاً بالتأمرك والتأورب معه، إن كان يمتعنا برؤية الرئيس مبارك يخوض حملة انتخابية، يضطر فيها لتسجيل فيلم يحدثنا فيه كأي مواطن مهيض الجناح عن أيام الفقر والكفاح، ووضع القرش فوق القرش لتمشية الحال، وفوقها يروج سيادة الرئيس، لمساعدة الزوج لشريكته بكي ملابس العيال. ولا نعرف إن كان ثمة علاقة بين إطلاق ورشة بناء أكبر سفارة اميركية في المنطقة فوق مرتفع يشرف على بيروت ويجعلها في قبضة يد أحفاد العم سام، وبدء اللبنانيين بمناقشة حقوقهم المدنية في مواجهة التنصت التليفوني وجاسوسية آلاف الكاميرات التي ستنشر في المدن والأماكن الحساسة. فالكلام في القوانين التي تضمن الحق العام، لم يكن على الموضة منذ اشهر قليلة، بينما هو اليوم، في لب السجال.

ومن باريس إلى غزة، لا نعرف كيف أفرجت «حماس» عن فرق نسائية في الخطوط الأمامية، ولا مانع من الحديث عن أولوية الواجبات المنزلية، وقوامة الرجال على جنس النساء، فالدنيا من حولنا تتبدل بسرعة البرق، ودوام الحال من المحال. فها هو رئيس تحرير صحيفة «القلم» الموريتانية، التي يبدو انها منعت 13 مرة خلال 33 عاماً، يصبح وزيرا للإعلام. ولا ندري ما سيفعل بزملائه الكرام، لكن العلاقة وطيدة وشقية بين «هاري بوتر»، و«احتمالات جزيرة»، و«المواطن الصالح»، الذي يصبح رئيسا، ونساء غزة اللواتي ينتزعن الفتاوى، ورئيس التحرير المضطهد الذي يؤتمن على الحريات، والكاميرات العمومية التي تثير جدالاً حول الحياة المدنية الأبية، في بلد كان لغاية الأمس، منتهكاً في كل شبر من ارضه وكرامته. دلالات ايجابية في اجواء مكفهرة وتجهمية. أكيد، بمقدورنا ان نكتفي بتعداد القتلى والجرحى، والتربص بنوايا شارون الأخطبوطية، رغم انسحاباته التكتيكية، وانتظار الكونفدراليات التمزقية، لكننا في الوقت عينه نشهد اندلاع شرارات تغييرية ليست بالضرورة سوداوية، والعالم يبقى مفتوحاً مع هكذا انقلابات على احتمالات عاصفة، نتائجها قد تكون بالفعل جذرية.

[email protected]