سياسات إدارة بوش.. عربيا

TT

رصدنا في مقال الاحد الماضي بعض اتجاهات السياسة الخارجية الاميركية في العهد الجديد، مؤجلين الحديث عن انعكاساتها في الساحة العربية. ولا شك ان ادارة بوش قد اعطت مؤشرات متعارضة حول النهج الذي تنوي اتباعه في المنطقة الشرق أوسطية، ولم تقدم لحد اللحظة تصورا منسجما ودقيقا لسياستها العربية ونمط تعاملها مع الصراع العربي ـ الصهيوني.

ومن الجلي ان الحكومة الاميركية الجديدة تتأرجح في نظرتها لمستجدات الوضع الشرق أوسطي بين الالتزامات المترتبة على رعايتها للمفاوضات العربية ـ الاسرائيلية واستئثارها بكامل اوراق الملف من جهة، ونزوعها الى الانكفاء والحرص على مراجعة نهج الادارة السابقة التي تحولت من راع لعملية التسوية الى شريك كامل فيها، مما انجرت عنه اخطاء وسلبيات معروفة.

ومن البديهي ان ادارة بوش الابن، التي تمثل امتدادا طبيعيا مباشرا لادارة بوش الأب تستشعر مسؤوليتها ازاء مسار التسوية الذي اطلقته في نهاية عام 1991، بيد انها حريصة على ادماجه في المعطيات الاقليمية الأشمل (الملف العراقي، اسلوب التعامل مع ايران، اشكالات التسلح و «الارهاب»..).

وقد كشف وزير الخارجية الجديد كولن باول عن هذه المتغيرات في خطابه أمام الكونغرس، كما افصح عنها خلال زيارته الأخيرة للمنطقة.

واذا كانت الاطراف العربية مالت في مجملها الى الترحيب بالرئيس الاميركي لأسباب عديدة ومختلفة، من بينها على الأخص سيطرة اللوبي الصهيوني على مركز القرار في ادارة سلفه، الا انها بدأت تشعر بالاحباط والامتعاض من بعض التصريحات التي تتابعت في الايام الاخيرة، ومن بينها ما ورد في حديث للجنرال باول من وصف للقدس بانها «عاصمة اسرائيل الابدية»، وهي العبارة التي وردت على لسان الرئيس بوش، رغم اعتذار وزير خارجيته بانها كانت زلة لسان غير مقصودة، مع طمأنة الجانب العربي على عدم تغير السياسة الاميركية بخصوص المدينة المقدسة.

ولكن ماذا اذا كانت زلات اللسان هفوات مليئة بالدلالة. فمن المعروف ان الطاقم المشرف على السياسة الخارجية الاميركية يتميز بالاحتراف وسعة الخبرة والتجربة، وله اطلاع واسع وشامل على أوضاع المنطقة وخلفيات الصراع العربي ـ الصهيوني ورهاناته ولا يخفي حرصه على اعادة تقويم ومراجعة صيغ تعامل الولايات المتحدة مع الأزمات المشتعلة في المنطقة.

وفق هذا المنظور، تدل جملة من المؤشرات البارزة على ان الولايات المتحدة لم تعد تسعى لتسهيل التوافق الاسرائيلي ـ الفلسطيني حول نمط من الحل النهائي، بعد اخفاق ادارة كلينتون في المسعى، وباعتبار المستجدات التي انجرت عن انتفاضة الاقصى، وقيام حكومة شارون.

وحسب المعلومات التي تم تداولها أخيرا، فإن العديد من الأوساط السياسية ومراكز الدراسات المتخصصة تشتغل حاليا على الاتجاهات البديلة عن التسوية النهائية، وفق منطق الاتفاقات المرحلية الطويلة الأمد.

وقد كتب في هذا المعنى آرثر هيرتزبرج الاستاذ الزائر بجامعة نيويورك في العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» منطلقا من ان الصراع العربي ـ الاسرائيلي، هو من بين الصراعات غير القابلة للحسم، باعتبار طابعه الايديولوجي. فالمشروع الصهيوني من حيث هو «ايديولوجيا لتحرير اليهود من المنفى» ليس باستطاعته التنازل عن أماكن يعتبرها مقدسة وغير قابلة للتفاوض، وكذلك شأن الفلسطينيين الذين «هم جزء من المسلمين المرتبطين روحيا بالقدس ولا يقبلون بالأمر الواقع».

ويذهب هيرتزبرج الى ان القيادة الفلسطينية لا يمكن ان تقر لليهود بحق البقاء، لأسباب دينية وعقدية، حتى ولو اعترفت مرغمة باسرائيل واقامت اتفاقات معها، وكل ما يمكن ان تقدمه هو «ترتيبات أمر واقع تهدئ الصراع ولكنها تترك القضايا الايديولوجية النهائية دون حل».

كما ان اسرائيل لا يمكنها ان تقبل بعودة اللاجئين، الذي يعني تقويضا فعليا للكيان الصهيوني، ولذا يقترح هيرتزبرج دمجهم في مواطن وجودهم الحالية واعادة تأهيلهم فيها ودعمهم ماديا لحل المشاكل الحيوية التي يعانون منها «مع اشتراط نسيان حلمهم الوطني».

أما بخصوص القدس، فيقترح هيرتزبرج تجميد الوضع في شكله القائم والعودة الى مشروع وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق الجنرال موشيه دايان القاضي باحتفاظ اسرائيل بالسيادة على المدينة المقدسة، في مقابل منح حقوق ادارية ودينية للفلسطينيين (رعاية وادارة المسجد الأقصى).

ولئن كان هذا التصور ليس وثيقة رسمية، إلا انه يعكس بعض اتجاهات الاستراتيجية الاميركية الجديدة في المنطقة، وهي استراتيجية تلتقي في الجوهر مع الرؤية الاسرائيلية التي عبر عنها الجنرال شارون، وتمكن ـ حسب الظاهر ـ من اقناع حلفائه الاميركان بها.

وحسب المعلومات التي أوردتها صحيفة «معاريف» الاسرائيلية (16 مارس 2001) فإن خطة شارون التي حصلت على تفهم اميركي تضم مرحلتين استراتيجيتين، تنقسم كل منهما الى عدة مراحل تكتيكية وتضم المرحلة الأولى من خطته قسمين: تهدئة ميدانية (المفاوضات الجارية لايقاف الانتفاضة) وتسوية مرحلية مطولة.

وقد ذكرت الصحيفة ان الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي قد أوجدا قنوات عديدة للتفاوض حول هذه الخطة، جميعها تقدم تقاريرها لشارون، ومعظمها على اتصال كذلك بوزير خارجيته بيريز، ومن أبرزها قناة عومري شارون (ابن رئيس الحكومة) ومحمد رشيد، وقناة آمنون شاحاك ـ أبو مازن.

ومهما كان الأمر، فإن الصيغة التي ستنتهي اليها الادارة الاميركية محكومة في نهاية المطاف بتفاعلات الوضع الفلسطيني الداخلي، حيث فرضت انتفاضة الاقصى حقائق جديدة لا سبيل للقفز عليها، كما هي محكومة بمستقبل الائتلاف الحكومي في اسرائيل، وطبيعة الموقف العربي، حيث تتجه الانظار الى قمة عمان وما ستفضي اليه من مواقف وقرارات.

ولذا فإن المطلوب اليوم من الجانب العربي هو الخروج بموقف صلب وحازم من مقتضيات الديناميكية السلمية، يتقيد بالحد الأدنى من سقف المطالب العربية (مرجعية القرارات الأممية) لقطع الطريق أمام مؤشرات استبدال الحل النهائي المتعثر باتفاقات مرحلية، ستتحول بحكم الواقع الى اتفاقات نهائية.