أيها العقل من رآك؟..

TT

«انك لا تستطيع أن تكون عقلانياً، في عالم غير عقلاني، فذاك أمر غير عقلاني». لا أذكر حقيقة في أي مسرحية قرأت هذه الجملة على لسان أحد أبطالها، ولكن الجملة بقيت عالقة في الذهن. وفي رواية «رحلة بالداسار» لأمين معلوف، يقول ميمون، اليهودي المتحرر، وصديق بالداسار، تعليقاً على هوس عام «الوحش»، الذي انتشر بين الناس، والقاضي بأن نهاية العالم سوف تكون عام 1666 لميلاد المسيح في التاريخ البابوي، بعد ظهور «ساباتاي»، أو مسيح اليهود المنتظر في تركيا: «يا صديقي، لن نفهم كيف يسير العالم إذا تخيلنا أن الناس يتصرفون دائماً بتعقل. الخرق هو المبدأ الذكوري للتاريخ». وفي أحد أفلام عادل امام، ولعله «الأفوكاتو»، دار حوار بين المحامي «حسن سبانخ» (عادل إمام)، وبين السجان (علي الشريف) فحواه ذات القضية. يقول حسن سبانخ للسجان انه من غير المنطق أن تتعامل مع مجتمع لا منطقي وفق قوانين المنطق، فذاك أمر لا منطقي.. ولا أنا غلطان؟ فيرد عليه السجان البسيط قائلاً: «واللّه ماني فاهم حاجة». فيرد عليه حسن سبانخ قائلاً: «طبعاً.. حتفهم ازاي؟.. فمن غير المنطقي أن اتحدث مع أحد لا يفهم المنطق». السجان لا يهمه ما يقوله حسن سبانخ، فهو يعيش الحياة كما هي، ولكنه مستغرب كيف أن محامياً محترماً يهين نفسه بهذا الشكل. أما حسن سبانخ، فلكي يكون متصالحاً مع نفسه، فإنه لا بد أن «يمنطق» ما يقوم به، حتى وإن بدا أن ذلك غير منطقي.

وفي فيلم «الكيف»، يدور نقاش بين جمال، أو «مزجنجي» (محمود عبد العزيز)، المهووس بالغناء، وأخيه الدكتور صلاح (يحيى الفخراني)، وممثل آخر يقوم بدور شاعر غنائي. يريد «مزجنجي من الشاعر أن يأتيه بـ «كلمات تافهة» كلمات تجيب فلوس وبس.. كلمات تعشش في الدماغ وتكيفه، فالكل يغني هذه الأيام»، فيجيبه الشاعر بأن عليه البحث عن بغيته هذه في الباطنية وليس عنده. وتثور مشكلة بين الطرفين، وكل يتمسك بـ «منطقه» وصحته، فيحتكمان إلى الدكتور (يحيى الفخراني)، الذي يحكم، وفق قياس «منطقي» معين بأن الكلمات والأغاني والألحان التي لا تعبر عن الواقع، تغيب الوعي، وبالتالي مثلها مثل المخدرات تماماً. ويعتقد كل واحد من الطرفين أن «منطق» الدكتور يتوافق مع «منطقه»، وبالتالي فقد حكم له: فالشاعر يرى أن ما يطلبه «مزجنجي» من كلمات هو بعيد عن الواقع، وبالتالي هو نوع من التخدير والمخدرات، بينما يرى مزجنجي أن ما يطلبه من كلمات هو عين التعبير عن الواقع، لأن الواقع تافه، ويحتاج بالتالي إلى كلمات تافهة للتعبير عنه. كل يريد أن يُمنطق إما ما يعتقده، وإما ما يريده، أو ما يتوق إليه.

وفي احدى الأساطير، يقال ان «شريراً» وضع مادة في الماء الذي تشرب منه إحدى المدن، بحيث يتحول أهل المدينة إلى مجانين بعد شربهم للماء. وبالفعل، جُن سكان المدينة، إلا الحاكم، الذي كان يشرب من صهاريج خاصة به لم تصلها المادة، فبقي هو العاقل الوحيد في المدينة. حاول الحاكم أن يتعامل مع السكان كما كان يتعامل طوال عهده، ولكنه لم يستطع، بل اعتبروه مجنوناً، وعقدوا العزم على ازاحته عن كرسي الحكم وصولجان السلطة والسلطان، بعد ثبات جنونه. وعندما وصلت المسألة إلى هذه النقطة، أي ضياع الكرسي والصولجان، استسلم الحاكم، وشرب من الماء الملوث، فعاد هو إلى عقله في نظر السكان، واستمر في السلطة، التي لا تعرف إلا منطقاً واحداً، هو منطق الاحتفاظ بها، وعاش الجميع بعد ذلك في وئام وسلام، حتى اتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، أعاذنا اللّه وإياكم منه.

تداعت هذه الأقوال والمشاهد والقصص إلى ذهني، وأنا أقرأ أخباراً غريبة، وتكهنات عجيبة، لا يمكن أن تجدها إلا في عالم التائهين والعاجزين واليائسين. فالتائه وحده، والعاجز وحده، هو من يرى الوهم واقعاً، ويبني عليه منطقاً متكاملاً، يريد أن يواجه به منطق حركة الواقع، الذي يفرض نفسه في النهاية، مهما كانت القوة النظرية لمنطق الوهم، ووهم المنطق إن صح التعبير. وهؤلاء التائهون والعاجزون واليائسون، تجدهم في كل مكان وزمان، أفراداً وزمراً، وفي الشرق والغرب معاً، حيث يلتقي الشرق والغرب هنا على سطوة الخرافة وعبث الوهم، ولا إشكالية في ذلك أو مشكلة، فلله دائماً في خلقه شؤون. المشكلة الحقيقية تكون عندما يستولي الوهم ومنطقه على أمم بكاملها، أو مجتمعات بأسرها، وهنا يكون ذلك تعبيراً عن تيه عام، أين منه تيه بني إسرائيل وأوروبا العصور المظلمة، وعجز شامل، ويأس قد وصل إلى قمته، أو هو القاع حقيقة. فها هو أحدهم، يستغل كل ما وهبه اللّه من ذكاء وألمعية، ليبرهن ويتنبأ بأن إسرائيل سوف تزول بعد عشرين عاماً تقريباً، بل وللدقة، في الخامس من شهر مارس (آذار)، عام 2022 تحديداً، ولا أدري إن كان قد ذكر في أي ساعة من نهار أو ليل سيكون ذلك. وها هي حركة طالبان تعلن على لسان الملا عمر، أن الأمطار قد هطلت أخيراً في أفغانستان، بعد أن تم تدمير الأوثان، وتكسير الأصنام.

كيف ستزول اسرائيل في ذلك العام؟ وفي ذلك اليوم بالذات؟ لا أحد يدري، وليس لأحد أن يدري، فالسببية في أبسط صورها، وعلاقة العلة بالمعلول، وكل سنن الخالق في ما خلق وما خلق، معدومة هنا. كل ما فعله صاحب النبوءة هو الاستناد إلى آية منتقاة من كتاب اللّه الكريم، وتفسيرها وفق منطق ذاتي بحت، هو ذات منطق الحاكم عندما شرب من الماء، ثم التلاعب الرياضي برقم 19، الوارد في عدة مواضع من القرآن الكريم، مع القيام بعمليات حسابية معينة للوصول إلى «الحقيقة» المقررة سلفاً، أو لنقل الحقيقة المرجوة، نتيجة العجز المادي عن تحقيقها، وذلك مثلما كان يفعل جابر، أو «بومة»، في رواية أمين معلوف سالفة الذكر، حين كان يتلاعب بالأرقام الواردة في الكتب المقدسة وغير المقدسة، للوصول إلى نتيجة مدعومة بالإشارات إلى أن نهاية العالم سوف تكون بالتأكيد عام 1666 للميلاد. وتعليقاً على محاولات ابن أخته جابر، يقول بطل القصة، بالداسار أمبرياتشو: «إشارة. كم من مرة سمعت هذه الكلمة، ومثلها كلمة نذير. يصبح كل شيء إشارة أو نذيراً بالنسبة لمن يترقب، لمن هو مستعد للاندهاش، للتأويل، مستعد لتخيل توافقات وتقاربات». ونحن نقول في أمثالنا العامية ان «اللي يخاف من العفريت يطلع له»، فالعقل، هذا القادر على صنع المعجزات العلمية، قادر أيضاً على خلق ما لا يوجد من أوهام، وقادر على إخراج عفاريت الذهن من قماقمها لو أراد ذلك: المهم هو في أي اتجاه يسير هذا العقل، وعلى أي موجة ثُبت مؤشره. ومن قبل صاحب نبوءة زوال اسرائيل بعد عقدين من الزمان، قام باحث آخر بالوصول إلى ذات النتيجة، استناداً إلى نبوءة عجوز يهودية عراقية عام 1948، وفق ما جاء في مقالة بديعة للأستاذ «عبد اللّه القفاري» في جريدة «الرياض» السعودية.

أما أخوتنا من الطالبان في أفغانستان، فقد ربطوا هطول الأمطار بتدمير تمثالي بوذا العملاقين، دون تماثيل ورسومات براهما وكريشنا وغيرهما، ووفق منطق ذاتي لا علاقة له بمنطق العلم الذي يحكم مثل هذه الظواهر، وكأن الأمطار كانت محبوسة عن افغانستان طوال عشرين قرناً، هي المدة التي كان التمثالان قابعين فيها في تجاويف جبال الأفغان. لو كانت الأمطار محبوسة عن الأفغان طوال تلك القرون الماضية، ولم تهطل إلا فجأة بعد تدمير التمثالين، لربما كان في ذلك منطق وأي منطق، ولكن وقائع الحياة، وحقائق الطبيعة تنفي مثل هذه السببية المتوهمة، ومن هنا فإن القائل بمثل هذا المنطق، لا يخدع إلا نفسه في الخاتمة. فالسماء في النهاية لا تمطر ذهباً ولا فضة، كما قال الفاروق رضي اللّه عنه، بل لا بد من العمل لصنع الذهب والفضة: هنا علاقة علة بمعلول، وسبب بنتيجة، وعاقل بمعقول، وهذه هي سنن الخالق في ما خلق. ورغم أن هذا هو منطق القرآن الكريم، إلا أن كثيراً من أهل القرآن بعيدون عن هذا المنطق وهم لا يعلمون، وأحياناً وهم يعلمون. بل لو أن قوانين الكون، وسنن اللّه في خلقه وما خلق متوقفة على السلوك الديني لهذه الجماعة أو تلك، على وجود هذا الحجر أو ذاك، لما كانت غابات الأمازون، ولا كانت الأمطار الاستوائية في عالم رب العباد جميعاً.

نعم، لكل شيء منطق، حتى الوهم له منطقه الخاص، مثل ما هو منطق الناسك، صاحب جرة السمن والعسل في حكايات كليلة ودمنة. فقد بنى صاحب الجرة كياناً كاملاً بناء على امتلاكه لجرة سمن وعسل، بذات المنطق الذي أخذ به حسن سبانخ ومزجنجي تبريراً لرغباتهما، فاقتنى قطعان الماشية، والقصور، والجواري والغلمان، حتى أصبح لديه ولد نجيب، من امرأة صالحة، أراد أن يؤدبه أحسن تأديب، وكل ذلك في خياله وهو مضطجع يحلم، فكسر جرة السمن والعسل، فقعد ملوماً محسوراً: لا قصراً ابتنى، ولا بقيت له حتى الجرة. ليست المشكلة في الحلم والطموح، فتلك هي روح ارتقاء البشر وعمارتهم للأرض، ولكنها في عدم القدرة على التمييز بين الحلم والواقع، والوهم والحقيقة، بحيث تختلط الأبعاد وتتداخل العوالم، فلا يعود حق ولا حقيقة، ويسود الوهم في النهاية، كما القصة المشهورة لكافكا: أحشرة تحلم بأنها إنسان، أم إنسان يحلم بأنه حشرة.. شيزوفرانيا تنشر أرديتها على عوالم لا تريد أن تعترف بأنها مريضة النفس، فتبقى في حالة من التخشب والسكون، وهي تعتقد في ذهنها أنها تعيش الحياة بكل لجيجها ولجتها.

والغريب في أمر منطق الوهم والأوهام، أنه يستعين بمنطق العلم والعلماء للوصول إلى نتائج لا يقرها علم ولا علماء. ان يكون لك منطقك الخاص الذي تحاول أن تبرر به هذا الشيء، أو أن تدرك ذاك الشيء، مسألة واردة، ومنطق الحياة وحده هو في النهاية من يقرر صحة هذا المنطق أو خطل ذاك المنطق. ولكن أن يتم تلقيح ما لا يتلاقح ببعضه البعض، يعطي في النهاية مخلوقات هجينة، ونتائج على غير ذي صورة متناسقة، لا هي غراباً ناعقاً في النهاية ولا حمامة تنوح في البداية. فالذي ربط سقوط الأمطار بتدمير تمثالي حجر، أو الذي خرج بتاريخ زوال اسرائيل، استخدم منطقاً رياضياً بحتاً، وعمليات حسابية ورياضية معقدة لا غبار عليها، ولكنه استخدم وسيلة هي في اساسها علمية، للوصول إلى نتائج غير علمية. وللتوضيح نقول: تصور لو أن أحدهم اراد قياس طول طريق بالقنطار والأردب، أو اراد وزن دقيق بالذراع والياردة. لا غبار على القنطار والأردب والذراع والياردة كوحدات قياس، ولا غبار على الطريق والدقيق كمواد، لكن العلة في القياس والمقاس، وما يمكن أن تصل إليه مثل هذه العملية من نتائج. أن تعلم الغيب والغيبيات، التي هي في علم عالم الغيب والشهادة وحده لا شريك له، باستخدام وسيلة ما وضعت أصلاً إلا لادراك عالم الشهادة، مسألة لا تقل خللاً عن استخدام الأردب في معرفة المسافة بين ساحل البحر وساحل الخليج. وبمثل ذلك من يحاول أن يثبت أن القرآن الكريم قد سبق العلم الحديث في الحديث عن المعجزات الحديثة. هو كلام حق، ولكن في النهاية فإن القرآن كتاب تشريع وأخلاق وتوجيه، وليس كتاباً في العلم المجرد. هو يوجهنا إلى البحث والتأمل والاكتشاف، ولكنه لا يعطينا المُكتشف جاهزاً. وعندما يأتي جمع من العلماء، ويكتشف كشفاً معيناً (الخريطة الجينية مثلاً)، فينبري أحدهم ويقول ان القرآن الكريم سبقهم في ذلك، فإن الحجة تكون علينا لا إلينا. أن يكون لدينا كتاب يوجهنا نحو ذلك، ومع ذلك يسبقوننا إليه، هو خلل فينا وليس تقليلاً من شأنهم. أما ذات القرآن، فلا شك أنه لم يفرط في شيء (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، ولكن كنا نحن المفرطين، فنبحث عن تبرير لتفريطنا في ما لا إفراط فيه ولا تفريط، وهنا تكمن القضية.

لا محيص عن القول أننا عرباً كنا أو مسلمين، نعاني من حالة عجز وتيه ويأس، ونحن نرى العالم يدخل ألفيته الثالثة، وقد تسلح بكل ما نعلم ولا نعلم، فنشعر بالخوف والرعب من عالم لا ندري ما هو فاعل بنا، ونحن على هذه الحالة من الضعف وضياع الدقة والهدف معاً. لا نريد أن نضع الاصبع على الجرح الحقيقي النازف، فنلجأ إلى المسكنات والمبررات لعلها تلهينا عن الجرح، ويستقر ما بأنفسنا من قلق ورعب، ولكن ذلك لا يوقف الجرح، وإن جعلنا لا نشعر به. العالم يصل إلى ما يشبه المعجزات في انجازاته، ونحن لا نزال نتعامل مع العالم وفق مقولة: «كأننا والماء من حولنا، قوم جلوس من حولهم ماء». إسرائيل تعيث في أرضنا فساداً، وهي الأقوى والأقدر وفق مقدرات عالم اليوم. بدل أن نشرح ونحلل ونتساءل لماذا كانت بهذه القوة، بعيداً عن خرافة المساندة الأميركية والمؤامرة اليهودية، تجدنا نبحث في ثنايا ما هو مقدس لدينا وغير مقدس، ونخرج بنتائج لا علاقة لها بهذا المقدس، بل هي في النهاية من الجانين عليه. إسرائيل ستنهار بعد عقدين من الزمان، فما علينا إلا الانتظار، وبسمة الرضا تحتل من وجوهنا كل زواياها، بانتظار اليوم الموعود، ولتفعل إسرائيل ما تريد، فما عام 2022 ببعيد، اكتفينا بالتوكل دون العقل (اعقلها وتوكل)، فأسأنا إلى التوكل والعقل معاً، فلا نلنا سكينة التوكل ولا انتشينا بلذة العقل، ونحن بما ليس لدينا فرحون.. هذا، وكان اللّه بعباده خبيراً.