دفاعاً عن لبنان.. والرأي الآخر

TT

ان يكون المرء في زيارة للبنان يعني في الواقع انه مدعو للنظر والتأمل في لوحة جمالية رائعة من لوحات القدر والابداع الالهي الذي شاء الله سبحانه وتعالى ان يجعل منه قدراً مشتركاً للتعايش بين الحضارات والثقافات والاقوام والاجناس والاعراق والملل والطوائف والاديان. وقبل ذلك كله وبعده قدر مشترك للتعايش بين بني البشر أصحاب المصلحة الحقيقية في مثل هذا التعايش.

لبنان الذي يصلح برأيي ان يكون التربة الخصبة والمناسبة لبناء وتشكيل نموذج المواطنة العالمية الواحدة القائمة على احترام حق الآخر، والمشاركة المتساوية في صناعة القرار، وصياغته النهائية في اطار من التفاهم والتعاون الخلاق.

جاء هذا الكلام على لسان واحد من ألمع المثقفين وكتاب الرأي، واحد كبار مستشاري الرئيس الايراني محمد خاتمي، والذي يرأس حالياً المركز الدولي لحوار الحضارات، اثناء زيارة له الى لبنان الاسبوع الماضي في اطار الاحتفال بالمعرض الدولي السابع للكتاب الذي نظمه اتحاد الناشرين اللبنانيين ليثير تساؤلات عديدة لدى البعض من النخبة من المتتبعين لتطورات الملف الايراني والملف اللبناني على حد سواء، الساخنين بما فيه الكفاية هذه الايام.

وحتى نقترب من الاثارة الحاصلة لدى النخبة المذكورة، بل ونقترب من بعض اسرار الشوق والتوق الشديدين اللذين يحملهما العديد من المثقفين واصحاب الكلمة وصناع القرار في المنطقة تجاه «الانموذج» اللبناني للتعايش اذا جاز التعبير، نكشف عن بعض ما قيل على هامش زيارة الدكتور سيد عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة الايراني السابق للبنان، فقط من اجل تقريب الصورة لا اكثر.

فقد قيل من جملة ما قيل في هذا المجال بأن الذين اتوا بمهاجراني الى لبنان انما كانوا يستهدفون الترويج أو التحضير لرئاسته المقبلة لايران. ويستندون في ذلك الى الحالة المشابهة التي اتى بها الرئيس الحالي محمد خاتمي الى لبنان في اوضاع شبيهة بالحالة التي يمثلها الوزير المستقيل أو المجبر على الاستقالة ـ مهاجراني ـ، وكما هو معروف بأنه قال ما قال وكتب ما كتب ما لم تسمح له الظروف بقوله في بلاده الاصلية.

أياً تكن صحة هذه المقارنة، بل واياً تكن صحة هذه النظرة الى لبنان أصلاً، فإن مجرد سريان مثل هذه الافكار على لسان وفي اذهان الكثيرين، يعني بمفرده ان شيئاً ما في لبنان يجذب العالم اليه لم يتبلور في بلاد الزائرين.

لقد قلت في مناسبات عديدة لاشقائنا اللبنانيين، ولم يستغرب احد منهم قولي هذا، بل غالباً ما كانوا يصادقون عليه، وقولي هو على سبيل النكتة وتقريب المعنى: «بان الله خلق لبنان ثم كسر القالب». اي لم يعد بالامكان صناعته في مكان آخر! طبعاً نحن نعرف جميعاً ونؤمن بان الله قادر ان يقول كن فيكون... لكن المقصود هنا بأن هناك فرادة في لبنان غير موجودة في مكان آخر، نعم قد يوجد ما هو شبيه به أو يقترب من صورته الفريدة تلك.

ثمة من يقول ان اهم ما يجده المرء الزائر للبنان هو ذلك البعد الآخر لنفسه، المغمور أو المطمور أو المغيب أو غير المرغوب فيه في البلاد الاخرى لأي سبب كان!.

ومنهم من يقول ان لبنان هو المرآة العاكسة لمجمل ما هو موجود اصلاً خارجه، وتحديداً في المحيط به من بلدان عربية واسلامية، لكنه لا يتفاعل بشكل حيوي الا فوق ارض لبنان.

فيما يقول آخرون ان لبنان ذاته ما هو الا محصلة ما يجري من حوله من تفاعلات، وبالتالي فهو افراز فعال لتلك التفاعلات التي شاء القدر ان يكون اللبنانيون هم المختبر الحي لاظهار حقيقة الصورة كما هي بأقل الرتوش الممكنة.

واياً تكن التحليلات التي تُقدم في سياق شرح وتبيين الصورة اللبنانية، فإن القدر المتيقن كما اظن هو أن اللبناني يحمل في قرارة نفسه العميقة وفي تكوينته المواطنية القدرة على ان يكون ذلك «الآخر» المختلف عنه، أو ان يقترب منه على اقل تقدير، فيلامس مشاعره واحساساته الى درجة التماثل احياناً، وهذا سر عشق الآخرين للبنان وسر الهيام به. فاللبناني، القائمة بلاده على اساس التسوية والحوار أصلاً، يملك من قدرة في التماثل والتماهي مع الآخر لدرجة انه قادر على جعل الآخر يقتنع بسهولة بأنه ليس غريباً على لبنان ، بل هو جزء منه ومن زمان بعيد! حتى وإن كانت زيارته للبنان هي الأولى، وبالتالي لن تكون الاخيرة مطلقاً، وهذا سر من اسرار التكوينة اللبنانية والذي قد يحمل في طياته الضرر والسوء على لبنان بقدر ما يحمل الفائدة والنفع له. خصوصاً اذا لم تتم مراعاة آداب المعاشرة والضيافة من جانب المضيف نفسه أو الضيف والزائر المؤقت أو المقيم.

ان يتمكن اللبناني من هذه القدرة، وان يمتلك مثل هذه المواصفات يعني في ما يعني انه يملك عالميته الخاصة به، تلك العالمية التي تفوق قدرة «العولمة» الغربية الزاحفة، على العالم في الوقت نفسه الذي يتحلى فيه بمواصفات «الانا» الذاتية الخاصة به. اي قدرته على السباحة في عالم منفتح دون التفريط بخصوصيته وملامح هويته.

انه باختصار شديد مشروع حواري تأسيساً ووجوداً واستمراراً ومطمحاً من مطامح «الآخر» الذي يحرص بالاطلال على لبنان في السراء والضراء.

هذا اللبنان الخاص والمتميز يبدو انه حاجة ملحة، ونحن نتقدم بوتائر متسارعة في مشروع حوارية الالفية الثالثة التي اطلقها الرئيس محمد خاتمي في عام 1998 وتبنتها الأمم المتحدة مشروعاً عالمياً للحوار بين الحضارات ابتداءً من عام 2001م. وهذا اللبنان كما اظن يمكن ان يشكل ضرورة لفلسطين بقدر ما هو ضرورة لايران ولسورية كما هو لمصر وللعراق كما هو للكويت.

بمعنى آخر ان العالم العربي والاسلامي الذي يواجه واحدة من اشرس تحدياته العالمية اليوم هو أحوج ما يكون للحفاظ على لبنان الصورة والنموذج كما هو لا كما نحب له ان يكون.

لبنان بقوته وضعفه. لبنان بمسيحييه ومسلميه. لبنان بعروبته وبعالميته. لبنان باطلالته العالمية الحوارية و«بانعزاليته» اقصد «توجسه» من احتمالات احتواء الآخر له و«ضمه» أو «الحاقة» بمشروع آخر «غير لبناني». لأن عند ذلك لن يعود لبنان، ولن يتمكن تالياً من تقديم الخدمات أو الدور الحضاري والحواري الذي اعتاد هو عليه واعتاد العالم ان يلمسه منه ويتلمسه فيه.

وحدهم القادمون من ثقافة الاستعمار والمستعمر، والطارئون على هوية هذه المنطقة العربية المسيحية الاسلامية المتعايشة منذ زمن طويل يخافون، بل يرتعبون من هذا اللبنان الذي يجب ان نحرص عليه جميعاً بمثابة النموذج النواة لتعايش الرأي مع الرأي الآخر، وتعايش الاديان التوحيدية في اطار الجوهر الايماني المشترك، حفاظاً على حق الانسان في تقديم مصيره بنفسه وحقه في الحياة حراً طليقاً كما ولدته أمه قبل ان تطأه وتستولي عليه غلواء السياسيين أو جشع الاقتصاديين أو هستيريا الامنيين من ارباب الاستعلاء والهيمنة والمهووسين في املاء القرارات على الغير.