الانتخابات المصرية: قراءة في عمق الحدث

TT

مع بقاء 48 ساعة على نهاية الحملة الانتخابية الرئاسية المصرية، تبدو الامور مهيأة لفوز مقنع للرئيس الحالي حسني مبارك، ولكن ليس من المرجح ان يفوز برئاسة خامسة لمدة 7 سنوات بنسبة 99 في المائة، فيما لا تتوقع منه المعارضة التقاعد لكتابة مذكراته. والسؤال: هل يعني ذلك انه يجب علينا النظر لانتخابات 7 سبتمبر وكأنها خدعة، كما يفعل البعض، او عملا لا قيمة له، كما يشير البعض الآخر؟

الاجابة: لا. برغم التأكيد القائم بأن الانتخابات لا تجري في ظروف مثالية. ففي البداية اعلنت التغييرات في قوانين الانتخابات التي نصت على اجراء انتخابات متعددة الاحزاب، في شهر فبراير الماضي، وبالتالي لم تترك وقتا للمعارضة لتنظيم نفسها. كما من الواضح عدم وجود اية آلية لمراقبة اللجان الانتخابية وعددها 54 الف لجنة منتشرة عبر البلاد. ولأن القانون يمنع وجود مراقبين اجانب فإن المجموعة غير الحزبية الوحيدة الموجودة في الوقت الراهن تتكون من مجموعة صغيرة من المتطوعين حركهم تحالف للمنظمات غير الحكومية.

لقد كان قرار الحكومة للحد من عدم زيادة نفقات الحملات الانتخابية عن 90 الف دولار، يعني ايضا ان مرشحي المعارضة الذين ليس لديهم حق استخدام وسائل الاعلام المملوكة للدولة، سيجدون صعوبة للانتشار، بل وشرح برامجهم لأمة يزيد عدد سكانها على 70 مليون نسمة. ولأن التاريخ النهائي لتسجيل الناخبين كان شهر ديسمبر الماضي، وبالتالي قبل اعلان الاصلاحات، فإن العديد من الذين كان يمكن ان يدلوا بأصواتهم في انتخابات متعددة الاحزاب، قرروا عدم التسجيل من اساسه. والمشكلة الاخرى هي تجاهل اكثر من 2.2 مليون مصري يعيشون في الخارج في جميع انحاء العالم الذين ربما كانوا سيفضلون مرشحا اكثر ميلا للاصلاح.

ويمكن ان تستمر قائمة المشاكل الى ما لا نهاية. وبالرغم من ذلك لا يوجد ادنى شك من ان هذه الممارسة تمثل تطورا ايجابيا رئيسيا في الحياة السياسية المصرية.

ففي البداية يستحق الرئيس مبارك التقدير لمواجهته، وبدلا من رفض عملية نشر الديموقراطية على انها فكرة غريبة يجب على العرب رفضها، الزم نفسه بعملية اصلاح وإذا ما سمح لها بالمضي قدما، يمكن ان تحول مصر الى دولة ديموقراطية. ربما يعتبر البعض وتيرة الاصلاح التي اعلنها مبارك بطيئة جدا. ولكن من الخطر رفض اهمية حقيقة انه شرع الديموقراطية باعتبارها تطلعا وطنيا.

لقد كان قرار مبارك للسماح بانتخابات متعددة المرشحين مهمة لسبب آخر. فقد انهت التقليد، الذي يرجع لأكثر من نصف قرن بالسماح لمجموعة من كبار الشخصيات العسكرية، فعليا، باختيار زعيم البلاد ثم اقرار البرلمان للترشيح.

لقد كان لدى معارضي مبارك فرصة كبيرة لطرح العديد من التكهنات بمدى صدق مبارك في فتح الابواب السياسية. الامر الذي يهم في عالم السياسة ليس الدافع، بل نتائج الفعل.

ان اهم نتيجة لتصرف مبارك هو انه من الآن وصاعدا سيصبح امام المقترعين فرصة حقيقية في الانتخابات. لقد تحطمت محاذير استمرت 6 عقود: يمكن تحدي الزعيم نفسه علنا، حيث يقرر الناخبون مصيره بدلا من قادة الجيش.

لقد جرى الكثير من الحديث ان قانون الانتخابات الجديد لا يسمح للمرشحين بالتقدم كمستقلين. غير ان نظرة مقربة ربما تظهر ان القرار ليس سيئا كما ادعى البعض، لأنه يلزم المصريين بالانتظام على شكل احزاب، وبالتالي منح حياتهم السياسية الناشئة بعض الهيكلية المطلوبة. كما انه يمنع ايضا الجماعات الدينية المتطرفة من الظهور بمظهر المؤسسات السياسية وقوفا وراء هذا او ذلك المرشح المستقل غير الحقيقي.

وفي تقييم التجربة المصرية يكون مهما عدم تجاهل أخذها ضمن سياق المنطقة. فأغلب الأنظمة العربية التي تسمي نفسها بالجمهورية ترتدي ملابس أنظمة استبدادية والانتخابات فيها عادة تنتهي بنتائج انتصار للمرشح بنسبة 99.99%.

ومثلما لا يشكل ظهور السنونو دليلا على حلول الصيف، فإن انتخابات واحدة لو جرت ضمن ظروف مثالية لا يعني تحقيق الديمقراطية تماما. ومع ذلك فإنه على الرغم من أن تطور مصر الديمقراطي هو في مراحله الأولية فإن هناك خلفية تشجع على التفاؤل.

كانت احدى النتائج الكارثية التي نجمت عن انقلاب عام 1952 هو تدمير الطبقات المتوسطة المصرية باسم الانجذاب الضال نحو القيم «الاشتراكية» الزائفة.

وكان نتيجة ذلك الانقلاب هروب عشرات الألوف من ابناء الطبقة المتوسطة من مصر، فيما غرق أولئك الذين بقوا في الغالب في عالم الفاقة والتهميش السياسي.

لكن في المرحلة التي أعقبت عقدين على ذلك الانقلاب، بدأت تظهر للأفق طبقة متوسطة حضرية، وهذا بفضل «تحرير الاقتصاد» وبدأت هذه الطبقة بأخذ ملامحها في مصر بشكل تدريجي. وكان تأثير ذلك كبيرا على اقتصاد البلد والحياة الثقافية فيه. وسيسمح انفتاح المناخ السياسي بمشاركة عدد أكبر من الناس في صناعة السياسة أيضا.

في الحقيقة، تستحق هذه الطبقات المتوسطة قدرا من الثناء للإصلاحات المتواضعة التي أعلن عنها حتى الآن. فالمجموعة المنشقة المعروفة باسم «كفاية» التي أخرجت مصر من سباتها السياسي السابق عن طريق التظاهرات شبه اليومية في القاهرة، لعبت دورا مهما في تعجيل الإصلاح بشكل لا يتناسب مع حجمها العددي.

فتغيير مصر من نموذج «مخابراتي» عربي يسيَّر على يد النخبة العسكرية والأمنية إلى دولة ديمقراطية تكون الطبقات المتوسطة فيها منفتحة على العولمة، وتلعب دورا قياسيا ليس بالأمر اليسير. فالعادات الثقافية الخاصة بالاستبداد تحتاج إلى وقت طويل كي تختفي، وهناك الكثير من المصريين المضطربين حقا بخصوص التغيير. فالحملة الانتخابية التي تعد الأولى في تاريخ مصر من حيث تعدد المرشحين فيها، كشفت الكثير من الحقائق المشجعة.

ومن بين هذه العناصر هناك النضج واتساع الرؤية والإرادة الطيبة التي تجلت من قبل المرشحين. ولم ينجذب أي منهم نحو كسب التأييد الشعبي الرخيص، الذي غالبا ما يتحكم بالسياسات في الشرق الأوسط. ولم يحاول أي منهم أن يستغل عواطف الناس من خلال إثارتها عن طريق استغلال مشاعر الخوف من الأجانب والكراهية للآخرين. ولم تكن هناك أي علامة على وجود عداء ديني ما يضع المسلمين ضد الأقباط المسيحيين مثلما توقع الكثير من خصوم الديمقراطية.

وفي هذا السباق الجاف نحو الديمقراطية أظهر المصريون درجة عالية من الإجماع على عدد من القضايا الأساسية وأكثرها أهمية قضية تحقيق إصلاحات أكثر.

ويدعم كل المرشحين تقريبا السلام مع إسرائيل والصداقة مع الديمقراطيات الغربية والتطور الليبرالي للاقتصاد. ولم يحاجج أي منهم من أجل أنظمة فقدت مصداقيتها تعتمد على اقتصاد الدولة وتحكمها فيه، والذي ساد في مصر ما بين عامي 1952 و1977. كذلك ليس هناك أي علامة على وجود رغبة في رؤية مصر تتبنى نظاما دينيا تحت اسم العودة إلى الإسلام.

وأظهرت التجربة أن مصر مستعدة لعملية أكثر شمولا وسرعة في تعزيز الديمقراطية بدون الخوف على جانب الأمن أو التجانس الوطني القائم حاليا، فيما انتقد الكثير من أفراد النخبة الحاكمة إصلاحات الرئيس مبارك باعتبار أنها قد تسمح بخروج الجني من قمقمه. ولكن، والى الآن، فالعفاريت التي خرجت جعلت نفسها مسموعة ومرئية، فيما بدا للعيان أنها من النوع الحميد.