المأزق العراقي: حديث حزين وغاضب

TT

يزداد الموقف في العراق صعوبة وخطورة على مستقبل ذلك البلد الشقيق العزيز علينا جميعا، الذي كان قد استطاع ـ رغم صدام ـ أن يحافظ على وحدته، ويستبقي بعض إمكانيات التقدم، بعد أن تزول الغمة، بطريقة غير الطريقة التي اتبعتها واشنطن متحدية الإرادة الدولية، ومتجاهلة مبادئ القانون الدولي، ولاجئة إلى خديعة شعبها وشعوب العالم باختلاق قصص عن صلات بين النظام العراقي و«القاعدة»، وعن وجود أسلحة نووية ثبت، ليس فقط أنها لم تكن موجودة، بل إن واشنطن ربما كانت تعلم علم اليقين، أنها غير موجودة، ولكنها ورطت وزير خارجيتها في تمثيلية مخزية أمام مجلس الأمن.

ونتيجة لهذه المواقف الأمريكية، فإن الشعب الأمريكي خرج من مآسي عهد صدام، إلى مآس تبدو مرشحة للتصاعد في حدتها وآثارها. فالاحتلال لم يحقق أي هدف من أهدافه، وإذا بالرئيس بوش الذي كان يتصور أن حملة العراق، سوف تتيح له أن يضع بنفسه على رأسه أكاليل الغار، عندما يخرج منتصرا على الطاغية العراقي، وقاضيا على الإرهاب، ومعلنا من فوق برجه أن المهمة قد أنجزت، ومبشرا ببناء ديمقراطية مثالية في العراق تمتد تدريجيا الى الدول الأخرى في المنطقة..

إذا فالرئيس يواجه النتائج السلبية، التي جلبتها عليه أفكاره المائلة الى التطرف، ونصائح شركاء السوء الذين أحاطوا به من جانب، بينما يحيط به من جانب آخر، أشخاص أعمتهم أيديولوجية بلهاء عن محاولة تقدير المواقف تقديرا سليما، وعن معرفة طبيعة المشاكل وسيكولوجية الشعوب.. فإذا النتائج على عكس ما صوروه له، فتزداد المعارضة الداخلية لسياساته وتذوب شعبيته، بعد أن وضح أن الأهداف التي ضحى من أجلها بآلاف الأمريكيين، بين قتلى وجرحى، ومئات الآلاف من العراقيين، لم يتحقق منها شيء. ولعل من يقرأ كتابا صدر مؤخرا بالفرنسية، للمفكر والسياسي اللبناني الكبير غسان سلامة بعنوان «عندما تعيد أمريكا تشكيل العالم»، وهو كتاب سيصدر قريبا ترجمته العربية، يستطيع أن يتتبع منشأ وتطور الفكر، الذي سرى كالسرطان في الجسم السياسي الأمريكي، والذي اختلطت فيه الأوهام والأطماع، والتعصب وتجاهل الحقائق، فاستولى على عقل الدولة الأعظم في العالم، وقادها الى مزالق تهدد العالم كله، كما تهدد أمن الولايات المتحدة ذاتها، بأن تجعلها بؤرة تستدعي إليها غضب الناخبين وسخط الساخطين، وكراهية الكارهين للظلم والتحكم والهيمنة.

وعودة الى العراق الذي أدى احتلاله، وهو الوصف الحقيقي للوضع الحالي، بصرف النظر عن استصدار قرارات من مجلس الأمن تسمي الاحتلال «قوات تحالف»، وهو ما يذكرني بمقولة «إن مجلس العموم البريطاني، يستطيع أن يغير كل شيء، ما عدا أن يجعل من الرجل امرأة أو العكس»، هذا الاحتلال، أدى الى انتشار العنف، بعضه مقاومة وطنية حقيقية وطبيعية، وبعضه انتقام من أنصار صدام، الذين أدى حل الجيش الى تفرقهم محتفظين بالمال والسلاح، وبعضه من مجرمين وجدوا التربة صالحة لممارسة عمليات ابتزاز وسطو وقتل، أما البعض الأخير فهو من فعل عصابات إرهابية، كانت الحدود مغلقة أمامها لدخول العراق، فإذا بالغزو يعطيها فرصة لكي تتجمع بعد إذ تفرقت، لتعيث في الأرض فسادا، كما أدى الاحتلال، بتأثير قوي ارتبطت به من قبل أن يغادر قواعده الخلفية، وجاءت في ركابه تحمل أطماعها وآثامها، الى إشعال الفتن الطائفية، التي كان العراق في كل عهوده حريصا على منع اشتعالها، فإذا بنا لا نسمع عن عراقي، بل نسمع عن عربي سني وعربي شيعي، وكردي سني، وكردي شيعي، وغير ذلك من الطوائف، وإذا بخطر الانفصال، يصبح احتمالا واردا يكرسه مشروع دستور، أعده غير عراقيين، وأقره شيعة وأكراد، ورفضه سنة، وآثار القلق حول عروبة بلد من أعرق بلاد العرب. وفي هذا التفتيت فرصة لأطماع دول مجاورة، وتهديد لأمن دول مجاورة أخرى، وتدعيم لمن يهمهم إضعاف أية دولة عربية، إضعافا للأمة العربية كلها، وعلى رأسهم بالطبع إسرائيل.

ولا أعرف حقيقة نوايا الاحتلال الأمريكي، وهل تصوروا فعلا أنهم قادرون بأساليبهم على إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، فضلوا الطريق بسبب معلومات خاطئة ونصائح فاسدة، نابعة من فئات باعت هويتها الوطنية والقومية و«عراقيتها»، استجابة لأطماع شخصية وطائفية؟ أم أن الهدف الذي باعوه خلسة لرئيس، تعوزه الخبرة وهزته أحداث سبتمبر وتفسيراتها الساذجة أو الخبيثة، التي جعلت من المسلمين الأعداء الجدد، وحملتهم جميعا جريرة البعض منهم، فكانت الوقيعة بين العالم والدول الإسلامية وتقسيمها وتفتيتها؟

سوف يظل المؤرخون والمحللون، يطرحون مثل تلك الأسئلة، ولكن الواقع واضح أمامنا، وهو أن الأسلوب الذي أدار به الاحتلال الأمور بعد النصر العسكري السريع، أدى الى تشجيع نزعات التفتيت الخطيرة، وجاءت محاولة فرض دستور ينتزع من العراق عروبته، ويكرس نظاما يدفع إما نحو التقسيم أو نحو حرب أهلية، تضيف الى معاناة الشعب العراقي.

ومن الغريب أن الولايات المتحدة التي ترفض تحديد موعد لسحب قواتها، فرضت حدا زمنيا لإقرار الدستور، وظلت تضغط في هذا الاتجاه، من دون أن تتيح فرصة حقيقية لبذل مزيد من الجهود للتوصل إلى حل يمكن أن يرض الجميع. وقد بذل الأمين العام للجامعة العربية، جهودا لتصحيح بعض الأخطاء في مشروع الدستور، ولو أتيح له وللدول العربية فرصة أكبر لكان من الممكن تجنب الكثير من الأخطار، التي قد تترتب على طرح النص الحالي على الاستفتاء الشعبي، إزاء معارضة مبررة من جزء كبير من الشعب العراقي. ولكن يبدو أن عناء مسؤولية عراقيين وضغوط أمريكية، يحول دون إعطاء فرصة لتجنب الوقوع في مزيد من الأخطاء، التي تفتح مزيدا من الأبواب على جهنم.

وقد عجبت لتصريحات لرئيس وزراء العراق المؤقت، يلوم فيها المسؤولين العرب على عدم زيارتهم كرؤساء، أو وزراء أو سفراء للعراق، أسوة بمسؤولين أجانب.

ولعل السيد الجعفري ليس محيطا بالظروف التي تجري فيها الزيارات، التي أشار اليها في حماية قوات الاحتلال المدججة بالسلاح، وهي ظروف لا أتصور أن مسؤولا عربيا يقبل بها. ولعله أيضا يعرف ما جرى لزوار وضيوف عرب عجزت حكومته عن توفير الحماية لهم من الأخطار النابعة عن حالة الفوضى، التي نتجت عن استمرار وممارسات الاحتلال.

ولعله أيضا عندما يطالب باحترام إرادة الشعب العراقي، ينسي أو يتناسى أن هذا الشعب الذي يعاني من الظروف، التي أشرنا إليها، ومن انعدام أو نقص الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء رغم الوعود والإمكانيات الهائلة لقوات الاحتلال، التي تبرر وجودها بالحرص على مصلحة العراق والعراقيين، أقول يتناسى أن هذا الشعب، ليس فئة من الفئات، أو ائتلاف فئات، تبحث كل منها عن مصالحها الخاصة.

ولا أستطيع ـ، عندما أسمعهم يتحدثون عن الديمقراطية في العراق، التي جاءت على أسنة رماح الوافدين من بعيد، أن امنع نفسي من الإشارة مرة أخرى الى الفرق بين ديمقراطية مستوردة، وما ننادي به دائما من أن تكون الديمقراطية نابعة من الداخل، كما نرى في مصر التي تستعد لإجراء انتخابات رئاسية بعد أيام جرى الإعداد لها في جو من الحرية والهدوء، والحرص على المصلحة العامة، يكذب ما كان يدعيه البعض من أن تدخلاتهم بأشكالها المختلفة، هي التي ستجعل من العراق المثال المشرف.

إن الدول العربية، مدعوة الى أن تبذل جهودها مع العقلاء من أبناء العراق، حتى يمكن الخروج من المأزق العراقي الحالي، الذي من شأنه أن يزيد من الفوضى، ويقسم الشعب والبلاد على أسس طائفية وعرقية، لا تتفق حتى مع أي تصور سليم لفيدرالية، إذا كان هذا هو المطلوب، ولا تحقق في النهاية مصلحة أي فئة من الفئات، التي يدعي الضاغطون والمحرضون حرصهم عليها. إن عروبة العراق ليست ثوبا يرتدى في المناسبات، ولكنها تاريخ وجغرافيا ومصالح حقيقية لشعب أبي شجاع، حمل في مرحلة مهمة من تاريخ العرب، شعلة التقدم والبناء، ولا يمكن إجباره اليوم على التخلي عن كل ذلك.

وأملي أن يفيق الجميع، قبل أن يسبق السيف العذل.