عاصفة ما بعد العاصفة

TT

تأتي الأعاصير على نوبتين. الأولى في شكل عاصفة مطرية ثم تأتي ما يسميها المؤرخ جون باري بـ «العاصفة البشرية» المتمثلة بتوجيه تهم الإدانة والنزاعات السياسية والمعركة حول التعويضات. فالفيضانات تزيل سطوح المجتمعات التي تم تأسيسها بطريقة بارعة. وبذلك تكشف بنى السلطة التحتية والمظالم وأنماط الفساد وحالات عدم المساواة غير المعترف بها من قبل. وحينما تلتفت إلى الوراء لتنظر إلى تاريخ الاضطرابات الجوية في أميركا، فستكتشف أن ما يعقبها دائما هو الفتنة السياسية.

في عام 9881 أزال فيضان الجزء الأكبر من مدينة جونستاون في ولاية بنسلفانيا. وراقب شهود عيان «مئات من الناس حوصروا على جسر مشتعل، مما أجبرهم على اختيار الحرق حتى الموت أو رمي أنفسهم إلى المياه المزبدة كي يغرقوا في خضمها. وكان الفيضان شديد الاستثنائية إلى الحد الذي أصبح البلد عاجزا على إدراك ما جرى، فيما كان الإعلام القومي مملوءا بمبالغات غريبة وقصص مفبركة: قصص عن أنهار مملوءة بالجثث، وأطفال يموتون أثناء لعبهم.

كذلك انطلقت الأحكام المسبقة بدون وجود أي كابح لها. وكان الهنغاريون آنذاك في نفس موقع المهاجرين غير الشرعيين اليوم القادمين من المكسيك، أناس على استعداد لتأدية العمل الشاق الذي لا يحب أن يؤديه غيرهم. ونقلت الصحف قصصا عن عصابات من الرجال الهنغاريين وهم يقومون بقطع أصابع النساء المتوفيات لسرقة خواتمهن.

ثم ومثلما أشار ديفيد ماكلوغ، انتقل الغضب الناجم عن «فيضان مدينة جونسون تاون» إلى مليونيرية بتسبره الذين كانت بركة ناديهم الخاصة بصيد السمك ترمي بمياهها إلى المدينة. وسمت صحيفة شيكاغو هيرالد أصحاب الملايين هؤلاء بـ «الأرستقراطيين الرومان» الذين كانوا يسعون إلى المتعة بينما الفقراء كانون يموتون كالحيوانات على مدرجات المسارح القديمة.

بل حتى قبل الفيضان كانت النقمة الشعبية تنمو ضد الصناعيين الأثرياء حديثي النعمة. وكانت الاحتجاجات تتصاعد ضد التصنيع وضد تمركز الثروات. وبلور فيضان جونسون تاون حالة الغضب الشعبي على نادي صيد السمك الذي يوجه له اللوم بشكل جزئي. وساعد رد فعل السكان تجاه الكارثة الطبيعية على إنشاء الأرضية التي نمت منها الحركة التقدمية.

كذلك ضربت عاصفة قوية أخرى الولايات المتحدة في سنة 0091 حيث قتل 6 آلاف شخص في غافلستون وتكساس. وكشفت العاصفة العداوات العنصرية التي كانت موجودة داخل طيات المجتمع. وأنهت الكارثة حظوظ غالفستون في التغلب على هوستون باعتبارها الميناء الرئيسي في تكساس.

ثم جاء فيضان المسيسبي العظيم عام 7291 ليزيح الوجه عن العلاقات الاقطاعية القائمة في مدينة نيو أورليانز بين البيض والسود. كان السود يُجمعون بالقوة كي يسكنوا في معسكرات عمل تحت حراسة رجال مسلحين. ومنعوا من المغادرة حينما ارتفعت نسبة الماء. وساعد العنف العنصري الذي لحق الفيضان على إقناع الكثيرين من السود للانتقال إلى شمال الولايات المتحدة.

وأثناء هذا الفيضان قام القادة المدنيون وبشكل متعمد بإغراق المناطق التي يقيم فيها الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة كي يخففوا ضغط المياه عن المدينة. وهذا ساعد على تفشي الغضب الشعبي وما ترتب عليه من نجاح المرشح هوي لونغ. فعبر شتى أنحاء الوطن كان الناس يطالبون الحكومة الفيدرالية بالتدخل في عمليات الإغاثة.

نحن نريد أن نفكر بأن قصص الأعاصير والفيضانات تدفع الناس دائما للتآزر معا لتقديم المساعدة للمتضررين. ومع كل فيضان كبير وكارثة كان رد الفعل الشعبي كريما وملهما في آن واحد. لكن الفيضانات هي اختبارات مدينة. فوسط كل تلك القصص التي تتضمن حوادث موت ودمار وأمراض هناك اختبار أيضا.

ولكن الترتيبات حين تتعلق بالمدن تكون إما ناجحة أو فاشلة. وما حدث في نيو أورليانز ومسيسبي بأميركا اليوم هو تراجيديا إنسانية. لكن انظروا عن قرب فستجدون أن التاريخ يعيد نفسه، فالمتضررون هم السود والفقراء ولذلك فإن الاضطرابات في طريقها للظهور.

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ

خاص بـ«الشرق الأوسط»