العقل المدبر لليمين الأمريكي

TT

كتاب «أمة اليمين» الصادر في العام الماضي لمراسلي مجلة «ذا أيكونوميست» البريطانية في الولايات المتحدة أدريان ولدريدج، وجون مايكلثويت، يعد حتى الآن أبرز الكتب الحديثة الساعية لشرح أسباب صعود وقوة التيار المحافظ بالولايات المتحدة. فالكتاب يعد بمثابة قاموس أو مرجع شامل يتناول تاريخ اليمين الأمريكي ومدى قوته وأسباب تراجع اليسار الأمريكي ومستقبل أمريكا والعالم في ظل سيطرة اليمين خلال السنوات الأخيرة وسنوات عديدة مقبلة على مقاليد الحكم والإعلام والرأي العام بالولايات المتحدة.

لذا يتضمن الكتاب عشرات الأفكار المحورية والمثيرة عن مدى سيطرة اليمين وأسباب هذه السيطرة ورؤية اليمين لمستقبل أمريكا والعالم. ويركز هذا المقال على أحد أفكار الكتاب المتميزة ـ التي وردت في فصله الثاني ـ والمتعلقة ببنية اليمين الأمريكي نفسه، ومن ثم أسباب صعوده وسيطرته، وهنا يتضح مدى التعقد الإيجابي الذي يتميز به الكتاب ومؤلفاه. فمؤلفا الكتاب يرفضان النظر إلى اليمين الأمريكي على أنه كتلة واحدة أو جماعة موحدة أو مجموعة بعينها، كالمحافظين الجدد أو اليمين المتدين أو معارضي رفع الضرائب أو الأثرياء أو غيرها من القوى المعروفة بتأثيرها داخل التيار المحافظ والحزب الجمهوري بالولايات المتحدة.

في المقابل يقسم الكتاب اليمين الأمريكي إلى جماعتين، أولاها العقل المدبر وثانيتها العضلات. وعقل اليمين كما يرى مؤلفا الكتاب يقع في مراكز أبحاثه، وعضلاته تكمن في منظماته الجماهيرية. دور المنظمات الجماهيرية ـ كما يرى الكتاب ـ يكمن في حشد قوى مساندي اليمين وتعبئتهم من خلال عقد المؤتمرات الجماهيرية وبناء التحالفات بين الكنائس والقيادات والقوى اليمينية المختلفة .

أما العقل المدبر لليمين ومركز قوته الفكرية والسياسية فيكمن في مراكز الأبحاث الأمريكية. وهنا يقدم الكتاب تشبيها بليغا لأهمية مراكز الأبحاث بالولايات المتحدة، إذ يقول إن مراكز الأبحاث في أمريكا تلعب الدور الذي تلعبه الأحزاب في دول العالم الأخرى.

بمعنى آخر ان الأحزاب في الولايات المتحدة تبدو ضعيفة مقارنة بمرشحيها، فدور الأحزاب يكاد يقتصر على كونها ساحة عامة لتجميع الناخبين والناشطين المساندين لها، وتنظيم الاقتراع بين مرشحيها لاختيار أفضلهم لخوض الانتخابات العامة ضد مرشحي الأحزاب الأخرى، ودعم مرشحيها بقدر من الأموال. أما وظيفة الحزب الأهم والخاصة بالتفكير في السياسات والتخطيط للمستقبل فقد تنازلت عنها الأحزاب الأمريكية طواعية لمراكز الأبحاث والتي تمتلئ بها واشنطن وتمتلئ الإدارات الأمريكية المتعاقبة بباحثيها. ولو حاولنا سريعا أن نرصد مدى تأثير مراكز الأبحاث اليمينية على إدارة بوش لاكتفينا بالحديث عن بعض كبار مسؤولي إدارة بوش المرتبطين بتلك المراكز، ولوجدنا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أن نائب الرئيس ديك تشيني، وبول أونيل وزير الخزانة الأمريكي السابق، سبق أن عملا كباحثين بمركز أبحاث «أمريكان انتربرايز» اليميني المعروف، والذي يعمل به الآن ريتشارد بيرل الرئيس السابق لمجلس سياسات الدفاع بالبنتاجون ، وأبرز الوجوه المعبرة عن تيار المحافظين الجدد، دايفيد فروم، كاتب الخطابات السابق للرئيس بوش، ونوت جينجريتش الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي، كما أن زوجة تشيني هي عضو حالي في مجلس إدارة «أمريكان انتربرايز».

ويحاول الكتاب تلخيص حجم ونفوذ مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية في أرقام، فيشير إلى أن عدد مراكز الأبحاث اليمينية الأمريكية المعروفة في واشنطن وخارجها يبلغ حوالي 50 مركزا، كما يقول إن مركز أبحاث «هيرتيج فاوندايشين» يرصد أكثر من 2200 خبير يميني موزعين على أكثر من 420 مركز أبحاث ومنظمة معنية بالقضايا العامة.

أما عن مدى انتشار دائرة قراء ومستقبلي أبحاث هذه المراكز فيشير الكتاب إلى أن عدد قراء مجلة «ذا ويكلي ستاندرد» الأسبوعية لا يتعدى 58 ألف قارئ فقط، وهو عدد قليل مقارنة بقراء المجلات اليسارية الموازية مثل مجلة «ذا نايشين» اليسارية التي يبلغ عدد قرائها 127 ألف شخص.

وهنا يحاول مؤلفا الكتاب البحث في أسباب قوة نفوذ مراكز الأبحاث اليمينية مقارنة بقلة عدد قرائها، وهو أمر يقودنا بشكل مباشر لتحليل أسرار قوة اليمين بالولايات المتحدة، حيث يرى الكتاب أن أسباب قوة هذه المراكز تكمن ـ إضافة إلى علاقتها القوية بالإدارة وإلى كونها جزءا من شبكة أكبر من المنظمات اليمينية الجماهيرية ـ في خمسة أسباب رئيسية : أهمها تركيز هذه المراكز القوي على دائرة صغيرة نسبيا من صناع القرار الأمريكيين، فهدف هذه الجماعات هو التأثير على الكونجرس والإدارة الأمريكية وكبار صناع القرار بينما تترك التأثير على الجماهير للمؤسسات الجماهيرية اليمينية ما يسهل من مهمة مراكز الأبحاث.

السبب الثاني هو تمتع هذه المراكز بدعم مالي مستقر من هيئات خيرية يمينية معروفة، هذا إضافة إلى شبكة متنامية من المتبرعين اليمينيين الذين يصل عددهم إلى 200 ألف متبرع في حالة «هيرتيج فاوندايشين».

السبب الثالث هو صعود نفوذ وسائل الإعلام اليمينية وعلى رأسها قناة تلفزيون «فوكس نيوز» الأمريكية والتي تفوقت على قناة «سي إن إن» الأمريكية في عام 2002 وأصبحت أكثر قنوات الأخبار مشاهدة في أمريكا، ما يسهل على مراكز الأبحاث اليمينية مهمة نشر أفكارها في أوساط الشعب الأمريكي.

السبب الرابع هو تركيز مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام اليمينية على رسالتها وهدفها مقارنة بمراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الليبرالية التي تهتم بقضايا الحياد والموضوعية وتحاول أن تقدم نفسها على أنها وسائل تخدم الصالح العام، وهنا يرى مؤلفا كتاب «أمة اليمين»أن الهيئات الخيرية الليبرالية الأمريكية تبدو أقل تركيزا من نظيرتها على اليسار، فالكتاب يشير إلى مؤسسة «فورد» الأمريكية الليبرالية ويقول إن «فورد» فتحت حوالي 16 فرعا حول العالم لخدمة عشرات من القضايا الخيرية العالمية مما شتت جهودها ومواردها ودعمها لمراكز الأبحاث الليبرالية مقارنة بتركيز الهيئات الخيرية اليمينية على خدمة قضايا الداخل بشكل رئيسي.

السبب الخامس هو أن مراكز الأبحاث اليمينية بنت، خلال العقود الأربعة الأخيرة والتي شهدت صعود اليمين الأمريكي تدريجيا، شبكة متنامية وقوية من مراكز الأبحاث والمنابر الفكرية والإعلامية المختلفة المساندة لها. ويقول مؤلفا الكتاب انه أصبح من الممكن لبعض الباحثين المحافظين الشباب أن يمضوا حياتهم كلها داخل شبكة مراكز الأبحاث اليمينية بدون أن يشعروا بحاجة للبحث عن أية أفكار أو مساندة خارجها.

أما في ما يتعلق بمستقبل مراكز الأبحاث اليمينية ودوام سيطرتها فيرى أدريان ولدريدج، وجون مايكلثويت، أن النفوذ الكبير الذي وصلت إليه مراكز الأبحاث اليمينية في الفترة الحالية ربما يعد أحد أسباب بداية تراجعها، فهما يعتقدان بأن نفوذ هذه المراكز الكبير بشكل خاص وهيمنة اليمين الأمريكي بشكل عام منحا مراكز الأبحاث اليمينية ثقة زائدة بنفسها وجعلاها تنشغل عن وظيفتها الأساسية وهي البحث عن أفكار جديدة إلى الانشغال بترويج سياساتها وأفكارها الآيديولوجية وتبرير مواقف وسياسات الرئيس جورج دبليو بوش. كما أن نفوذ وانتشار شبكة مراكز الأبحاث اليمنية أعطيا الباحثين المحافظين شعورا بالاكتفاء الذاتي وعدم الرغبة في قراءة الآخر والتعرف عليه، وهو شعور خطير مكلف يؤدي للتقوقع على الذات والخروج مبكرا من الصراع على السيطرة على الجدل العام الفكري والسياسي بالولايات المتحدة.

* مدير الشؤون العربية بمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير)