ميليس لبنان

TT

لبنان بلد صغير، الناس فيه تعرف بعضها البعض. والمهنة الصحافية فيه صعبة. فقد تنتقد صديقا وتلقاه في مطعم ظهر اليوم التالي. ويكون حرج كبير. وقد مررت بمثل هذه التجربة مرات كثيرة. ولكن كان عليَّ دائما ان اختار بين صداقاتي وبين ضميري. ولم أكن أتردد. حدث ذلك مرات عديدة عبر السنين، كان آخرها مع المدعي العام التنفيذي السابق عدنان عضوم، الذي كان أحد أكثر القضاة نزاهة قبل الانتقال إلى العمل السياسي. انتقدت دور عضوم في محاولة اغتيال مروان حمادة وفي اغتيال الرئيس الحريري. وعندما ذهبت لواجب التعزية بخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز في السفارة السعودية، وجدت القاضي عضوم أمامي. واحترت. هل أصافحه على أننا خصوم أم أعانقه على أننا أصدقاء. وتولى هو الإنقاذ من الحرج متناسيا ما كُتب.

تربطني صداقة بالمدعي العام التمييزي الجديد سعيد ميرزا. وأحمد ربي وأضرع إليه أن أظل أحمده، على أن لا حاجة لي بالقضاء ولا علاقة ولا مرحبا. ولكن يراجعني أحيانا محتاج فأراجع أنا سعيد ميرزا. وقد درس مرة ملفا لسيدة مظلومة طوال أيام وكأنه محاميها ـ أو محاميَّ ـ الخاص. وعندما قلت له انني لم اطلب كل تلك المشقة معرفة بمشاغله، أجاب، لم أفعل ذلك من أجلك بل بسبب الظلم الواضح.

الغريب في سعيد ميرزا ذلك الشبه مع ديتليف ميليس. أو العكس. الطبع الساكن والأعصاب الثلجية والهدوء المطلق. ومثله أمضى كل عمره القضائي أو القانوني في الجنائيات. وقبل منصبه الحالي كان رئيساً لمحكمة الجنايات العليا، فذهبت مرة أزوره في مكتبه. ورأيت المحامين والمحاميات والقضاة يدخلون ويخرجون بأثوابهم الرسمية، فقلت له لن أبقى لأشرب القهوة. أنا ذاهب إلى بابل لأنها اكثر هدوءا.

ويسمى رؤساء المحاكم في لبنان «الرئيس». وسعيد ميرزا معروف للجميع بلقب «الريِّس ميرزا». ولا اعرف ما هو لقبه الجديد في أهم منصب قضائي في الدولة. وهو لأصدقائه بلا ألقاب. أب لبناني عادي محافظ ومتواضع وممتلئ معرفة قانونية وضميرا. وعندما عين مدعيا تمييزا عاما، كان يعرف أنه سوف يكون ميليس لبنان. وأنه سوف يضطر إلى اتخاذ القرار القانوني في حق رجال لم يكن القانون يجرؤ على النظر إليهم. إلا أنه كان يدرك ايضا أن القضية هنا أكبر من القضاء اللبناني وأبعد من لبنان، علما بأن سعيد ميرزا كان رفيقا لرفيق الحريري يصفق له في اجتماعات حركة القوميين العرب، كما أطرب لنجاحه في ما بعد بدون أن يخيل إليه أنه سيشرف على التحقيق في اغتياله.