بلاها الحقيقة

TT

أخاف أن يأتي يوم ـ هذا إن لم يكن في المحطة القريبة ـ وتصبح الحقيقة رابع الأساطير عند العرب، بعد (الغول والعنقاء والخل الوفي). فالحقيقة التي خرج يناشد بها ثلث الشعب اللبناني في اليوم التالي لاغتيال دولة الرئيس السابق رفيق الحريري، التي مات من أجل استخراجها من وادي السباع كاتب مثل سمير قصير، وناشط سياسي كجورج حاوي، ومكيدة مدوية كمحاولة اغتيال النائب الياس المر، هذا غير كم حبة من البشر سقطوا صرعى في دوي قنابل مروعة زرعت في الأسواق، لكن الموازين السياسية أسقطتهم من حساب الخسائر، فهم مجرد (شقفة أوادم) ونسيتهم الحقيقة. الحقيقة التي قبض اللبنانيون على يافطاتها، وأسئلتها، منذ ستة أشهر كالقابضين على الجمر، بدوا بعد تقرير الألماني ميلس يسمعون شائعات مروعة، تدوي كصوت الصراخ في الآبار المهجورة، نقرأ بعضها في عناوين الصحف وبعضها بين السطور، بعضها يثير في النفس رعدة يطردها المسلم بالمعوذات، والمسيحي بالنداء (يا عذرا)!

اللبناني غير ملوم، فالخوف عند الخطر غريزة بشرية، خاصة عندما تجد تصريحات صحافية وسياسية ومنبرية، تلطم كما تلطم بعض حريم الشارع المصري بالملاية اللف: يا لهوي، يا لهوي، يا لهوي! وتضرب على خديها وتنفش شعرها، وكل من يسألها ترد عليه: بيقولوا يا خوي لقيوا الحقيقة!

وبغض النظر عما هي الحقيقة فإن مرأى امرأة تلطم منفوشة الشعر حمراء الخدين من كثرة اللطم، لهو منظر تنشق له صدور الشجعان، ويلهج لسان الرعديد قائلا: «يا لطيف ألطف يا رب. خير اللهم أجعله خير»!

قالت النائحات من الصحف عن الحقيقة : إن كشف الحقيقة سيكون له دوي أعلى مما حدث يوم جريمة الرابع عشر من فبراير الماضي، يعني أكثر من ألف كلغم متفجرات. الحقيقة ستجعل لبنان ينهار على رؤوس اللبنانيين، وليس على رأس فاعليها ! أطلق دوي الحقيقة أساطير الشائعات، والمؤامرات، ومسؤولية أميركا عن كل ما يحل بنا، وما لا يحل، فسقطت معها قلوب المرتاعين العرب واللبنانيين، حتى أشفقوا على أنفسهم من هذا الثمن فشدوا بحكمتهم العربية : «بلاها الحقيقة! شو بدنا بْهَلحقيقة يا عمي! لبنان أهم من الحقيقة! العروبة أهم من الحقيقة ! شو بدنا بهلحقيقة يللي تخلي الأجانب يفتشو بيوتنا والمحاكم الدولية تحاكم مسؤولينا، العروبة أهم من الحقيقة! ماهيك؟!».

أيه هيك!

كأن العروبة والحقيقة عدوان لا يجتمعان، وكأن ثلث الشعب اللبناني الذي خرج يطالب بالحقيقة، يجهل الحقيقة، أو كأنه خرج يتريض!

لكن الحق معهم، فنحن في الحقيقة لا نحب الحقيقة، فالحقيقة تكلفنا الكثير على رأي الأم التي تنصح ابنتها حين وضعت عينها على حقيقة زوجها الخائن: «يا بنتي اعملي نفسك مش عارفة، لأنه لو عرف أنك عارفة ستدفعين ثمن الحقيقة!» أما الأم (النجدية) فتصبر ابنتها لتدفن الحقيقة في تراب الحديقة الخارجية قائلة: يا بنتي (كل حمار ينهق)، فتدفن البنت الحقيقة وتفضل العيش مع النهيق ومع الحمار، أكرمكم الله!

[email protected]