عروبة العراق: نسيجه الأول .. السكاني والتاريخي والثقافي والحضاري

TT

مع وجود وثائق دولية تنعى (العنصرية) وتنبذها وتجرّم من يعتنقها ويمارسها.. وفي ظل التباهي الهائل بأن البشر يعيشون في القرن الحادي والعشرين: عصر العولمة والانفتاح الكوني المتجاوز لـ (التحجرات العرقية والقومية).. مع وجود ذلك كله، وفي ظله: هناك اقوام يودون ويتمنون: ان يجتث الجذر اللغوي الثلاثي (ع ر ب) من القواميس كافة، بما فيها القواميس العربية نفسها.. وهذه (عنصرية) كاملة العناصر والمفهوم، بالغة التخلف والظلام.. ومما يزيد هذه العنصرية ظلما وظلاما: انها موجهة ضد العرب وحدهم دون سائر الناس. فهؤلاء الذين يتمنون اجتثاث العرب أو الحط من قدرهم ـ جنسا ولغة ـ لا يفعلون ذلك مع الأعراق واللغات الاخرى.

منذ عقود ـ ولا سيما بعد 11 سبتمبر ـ يتعرض الاسلام لهجوم شامل وحاد: هجوم على كل شيء فيه: مصادره وعقائده وشرائعه وشعائره. وقد امتد الهجوم الى المسلمين.. ثم أفرد (العرب) بمزيد من الضغن والعداوة والهجوم: تخصيصا بعد تعميم، وتركيزا بعد طرق، وايقادا بعد تسخين. ولذلك نظمت الحملات الثقافية والفكرية والسياسية والاعلامية التي (تقبّح) كل شيء عربي: جنسهم وتاريخهم وتراثهم ولغتهم.. وعقلهم!! فقد قال قائلهم: ان العقلية العربية قرينة التخلف بالضرورة. وقال آخرون: ان من خصائص العقلية العربية: التفكير المفتت، لا التفكير ذو الرؤية المتناسقة المتكاملة، هذا في ذات الوقت الذي يتهمون فيه العرب بأنهم يحملون دينا ذا (رؤية شمولية في كل شيء) ـ في معرض الذم طبعا ـ والسؤال البديه هو: كيف يحمل العقل او التفكير المفتت؟ وكيف يفهم ويتعامل مع دين ذي رؤية شاملة لكل شيء؟

ولتيسير المسألة: لنفترض: ان الاسلام (نظرية مركبة) من العقيدة والشريعة.. من الأخلاق السالبة والموجبة.. من الدنيا والآخرة.. من النية والفعل.. من التوازن بين ما هو روحي وما هو مادي.. بين ما هو مستطاع وما هو غير مستطاع.. من التوكل والأسباب.. من التواضع والطموح.. من الثبات اليقيني والمرانة الواسعة.. فكيف يستوعب هذه النظرية المركبة ويتفاعل معها: عقل او تفكير درّي مفتت مفكك؟

وكان (نقض) العروبة ـ وفق تلك المقاييس العنصرية الشعوبية ـ محصورا في الطرح الفكري والثقافي والأدبي.. وهذا اتجاه ظالم وشرير في سياقه النظري هذا.

بيد انه يهون ـ على خطورته ـ بالقياس الى (النقض الدستوري) للعروبة.

وهذا النقض الدستوري يتمثل في (عراق منزوع العروبة) يصر نفر من العراقيين على تأصيله في دستور يسقط عروبة العراق ويطمسها طمسا. ان هذا الاتجاه: انما هو اتجاه عنصري ـ بلا ريب ـ وهو ـ في الوقت نفسه ـ عدوان حقيقي وأثيم على التاريخ والثقافة والحضارة العراقية. فعروبة العراق تثوى في نسيجه الأول القديم: الثقافي واللغوي والتاريخي والحضاري.. ليست صفة طارئة، ولا مكونا عارضا، ولا ثوبا يمكن ان يخلع لارضاء هذا الهوى أو ذاك من الأهواء الداخلية أو الخارجية.

ان عروبة العراق سبقت بألوف السنين ميلاد صدام حسين، ووجود حزب البعث، وسبقت الشعارات القومية التي اصطفقت في المنطقة في الحقب الاخيرة.

بل نقول ـ بموضوعية مجردة موثقة ـ: ان عروبة العراق سبقت (الفتح الاسلامي) نفسه في القرن السابع الميلادي. وهذه هي الأدلة الموثقة.

من المتفق عليه بين معظم المؤرخين وعلماء الأجناس: ان جزيرة العرب هي الموطن الاصلي لـ (الساميين). ومن ابرز هؤلاء العلماء المختصين في هذا المجال (شبر نكر).. فلقد اثبتت: ان هؤلاء الساميين خرجوا الى الهلال الخصيب.. ولا ريب في ان العراق من صميم منطقة الهلال الخصيب.

وهؤلاء الساميون هم العرب الاوائل الذين انتقلوا من عمق الجزيرة العربية الى العراق في وقت مبكر جدا من التاريخ.. يقول العالم المحقق: محمد جميل بيهم في كتابه (دراسة وتحليل للعهد العربي الأصيل): «العرب هم فئة من الساميين الذين كانوا منتشرين ما بين وادي الفرات ووادي النيل.. ومعنى عرب بالعبرانية: بدو.. وبالسامية القديمة: غربيون. وعرفوا بالغربيين عند الامم التي كانت تسكن العراق لأن منازلهم تقع غربي الفرات».

ويقول المؤرخ العراقي الفذ المتثبت: جواد علي ـ في كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام ـ: «وتدل الادوات المكتشفة على قلتها، على ان شعوب الجزيرة العربية حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي، ولا سيما العراق وبلاد الشام.. والعراق وبلاد الشام، أي الارضون التي يقال لها الهلال الخصيب في الزمان الحاضر هي من الناحية الطبيعية وحدة لا يستطاع فصلها عن جزيرة العرب.. وليست البادية الواسعة التي تملأ باطن الهلال إلا جزء من جزيرة العرب، وامتدادا لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حد.. واذا ما أخذنا بنظرية القائلين ان جزيرة العرب مهد الساميين، جاز لنا ان نقول عندئذ ان معظم اهل الهلال الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة.. والكتابات الاشورية هي اقدم سجل ـ لا شك في ذلك ـ يشير الى وجود العرب في الارضين الواسعة الممتدة من الفرات الى مشارف بلاد الشام.. وقد وجد العرب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل دون ريب. فالعرب هم في هذه الارضين قبل هذا العهد بكثير».

ما هذا (الكثير) الذي اشار اليه السيد جواد علي؟.. ينبثق من هذا السؤال: سؤال آخر: متى كان عصر الاشوريين الذين سجلوا الوجود العربي في العراق؟.. لقد وجدوا ـ بوضوح وثقل ـ على مسرح التاريخ في اوائل الالف الثاني قبل الميلاد.

وحاصل جمع ما قبل الميلاد والتاريخ الميلادي هو 7000 سنة تقريبا.

تتعزز هذه الحقيقة بأخرى مثيلة وهي: ان الملك العربي الشهير (حمورابي) قد حكم العراق واصلحه اجتماعيا واقتصاديا وقانونيا في الحقبة ذاتها: حقبة بروز الاشوريين، اي في الألف الثاني قبل الميلاد.. ونحن نرجح ان يكون الوجود العربي في العراق اسبق من ذلك.

ومن الحقائق التي لا مراء فيها: ان الوجود العربي في العراق لم ينقطع قط: منذ تلك الحقبة المبكرة من التاريخ البشري، والى يوم الناس هذا.

ففي حقبة تاريخية تالية: شهدت العراق ملوكا عربا منهم ملوك الحيرة مثلا: مالك بن فهم، وجذيمة بن الابرش. وعمرو بن عدي. وامرؤ القيس. والنعمان بن امرئ القيس، والمنذر بن امرئ القيس، والمنذر بن المنذر بن امرئ القيس، وعمرو بن هند، والنعمان بن المنذر. واياس بن قبيصة.

وحين جاء الاسلام الى العراق: لم يأت بالعروبة لأن العروبة قد سبقته الى العراق بألوف السنين.. ولكن يصح ان يقال: ان العروبة قد (انتعشت) بمجيء الاسلام الى العراق.. وهذا أمر طبعي مفهوم. فالنبلاء الذين حملوا العلم والضياء والهدى الى العراق، انما هم عرب خلص قدموا من المهد الأول للعروبة: جنسا ولسانا ومكارم ونسبا ورحما مع عرب العراق.

فبأي عقل؟.. بأي أمانة؟.. بأي ميزان عدل يحاولون (اغتيال) عروبة العراق، ثم يعمدون الى دفنها.. ثم يؤصلون جرائم الاغتيال والدفن في (دستور) ويطلبون من الشعب العراقي: ان يقول (نعم) لهذا الدستور.. اي نعم لاغتيال العروبة وطردها وطمسها ومحوها والغائها؟!

ان هذا سلوك فكري وسياسي غير محترم وغير أمين: (ينتهز) فرصة زمنية معينة ـ تحت عباءة الاحتلال ـ: ليجترئ على الغاء حقائق التاريخ والحضارة والثقافة.. وحقائق (الجغرافيا الطبيعية).. وحقائق (الجغرافيا البشرية).

ان من حق العراقيين: ان يقولوا (لا) لهذا الاتجاه غير المؤتمن على تاريخ العراق وحاضره ومستقبله.. كما يجب على العرب الآخرين: ان ينهوا صمتهم الغريب المريب، وان يفتحوا افواههم السياسية والدبلوماسية والاعلامية والثقافية بـ (لا) المغلظة المكررة: من هنا الى يوم القيامة.

وبديه: أبده من البديه: ان الدفاع عن عروبة العراق لا علاقة له ـ قط ـ بالنزوع العنصري، او التطرف القومي:

أولا: ان الاسلام طهر نفوسنا وعقولنا من (النزوع العنصري) وذلك حين علمنا: ان اصل الناس جميعا واحد، وان الكرامة الآدمية سارية في كل انسان: لا يحرم منها أحد، وحين علمنا ان الله خلق الناس متنوعين في قبائل وشعوب لكي يتمكنوا من التعارف. ولو شاء: ألا يتعارفوا لخلقهم غير متنوعين: فالتنوع سبب التعارف ومضمونه وحكمته.

ثانيا: ان التطرف القومي متبوع ـ ولا بد ـ بردود فعل قومية متطرفة: توازيه في القدر، وتضاده في الاتجاه.

ثالثا: ان المشكلة ليست في (وجود قوميات).. وانما المشكلة في:

أ ـ عدم الاعتراف بالقوميات المتمثلة في القبائل والشعوب والألسنة والالوان. ومن هنا نحن نمتلئ عجبا من مقولة ان (جنسية المسلم عقيدته).. فالحقيقة والواقع يقولان: ان جنسية المسلم الكونية العرقية البشرية هي جنسيته الكورية او الامريكية او الجزائرية او السعودية او المصرية او اليمنية الخ. وان عقيدته الدينية هي عقيدته الصحيحة في الله، والقرآن، والرسول الخ. ولا خلط بين المفهومين، ولا تناقض بينهما.

ب ـ تفضيل قومية على أخرى: بسبب عنصري، وهو سبب استكبار ابليس على آدم: «أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين».

نعم. لا علاقة للدفاع عن عروبة العراق بأي اتجاه عنصري او تطرف قومي. وانما نتحدث عن الاستغلال السياسي البشع لظرف سياسي ـ مثقل بأغلال الاحتلال ـ للاستئساد على عروبة العراق: المغروسة في كيان هذا البلد منذ فجر التاريخ البشري المكتوب.. اما اذا كان سبب عداوة العروبة هو: ان صداما رفع شعارها فينبغي تعميم المنهج بمعنى هجر كل شيء فعله صدام. فقد كان يسبح في انهار العراق فلا تسبحوا فيها، وكان يصيد البط فلا تصيدوه، وكان يتزوج ويلد فاهجروا النساء باطلاق، واعمقوهن ابدا!!