الكاتب أكذوبة.. فلماذا أنطلى أمره على العرب؟!

TT

لا أعرف ما هي القيمة الفنية لأعمال الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبيسك الذي يشغل الناس حالياً. وتقتضي مني الأمانة القول بأني لم أطلع على رواياته حتى الآن. كل ما فعلته هو اني قرأت بعض مقابلاته الصحفية هنا أو هناك. وبالتالي فربما كانت رواياته ناجحة من الناحية الاسلوبية والفنية، وربما لولا ذلك لما كان له كل هذا الصدى وكل هذه المبيعات الضخمة التي تفوق نصف المليون نسخة والتي درَّت عليه أرباحاً طائلة.. وربما كان ايضاً عبارة عن ظاهرة اعلامية أو صرعة جديدة يحتاج إليها الوسط الباريسي لكي يشغل الناس بها من حين إلى حين ثم تنطفئ بعدئذ كفقاعات الصابون.. كل هذا يحكم عليه الزمن الذي يغربل كل شيء.. فكثيراً ما صعد كاتب ما إلى قمة الشهرة في حياته ثم طوي في غمرة النسيان بعدئذ واتضح انه غير مهم. وكثيراً ما حصل العكس: أي ان يُهمل كاتب ما في عصره ثم تكتشفه العصور اللاحقة وتعرف قيمته (أكبر دليل على ذلك نيتشه الذي لم يشتهر الا بعد موته، ثم رامبو، وآخرون عديدون).

ولكن ليس هذا هو صلب الموضوع لمقالتي في الواقع. السؤال الذي أريد طرحه هو التالي: هل هذا الكاتب يشكل حدثاً مهماً بالنسبة للثقافة العربية يا ترى؟ أم انه إفراز شبه مرضٍ لأحد تيارات الثقافة الغربية التي عودتنا على الصرعات المتتالية منذ أكثر من خمسين سنة؟ وما حاجتنا إلى الأفكار العدمية على طريقة شوبنهاور لميشيل ويلبيسك؟ ينبغي العلم بأن العدمية هي ترف للشعوب الفنية التي حققت كل شيء وتستطيع ان تكون عديمة في بعض تجلياتها دون ان تخسر حضارتها. وهذه هي حالة فرنسا وأوروبا عموماً. كان روبسبيير قائد الثورة الفرنسية قد قال هذه العبارة الشهيرة ذات الدلالة: الالحاد ارستقراطي! بمعنى ان الطبقات العليا والمترفة من المجتمع هي التي تستطيع ان تكون ملحدة. أما الفقراء من أمثالنا فالايمان يشكل بالنسبة لهم وضمن ظروفهم المعيشية الصعبة ضرورة قصوى.

وأنا أقول بأن العدمية كفلسفة في الوجود وهي ايضاً ارستقراطية أو قل محصورة بالمجتمعات التي شبعت ووصلت الى ذروة التطور ولم تعد تعرف ماذا تفعل بنفسها أو كيف ترفه عن ذاتها. وبالتالي فهي تجرب كل أنواع الشذوذ دون ان تخسر شيئاً أو دون ان تصبح مهددة بالضياع أو بالانهيار. وأنا أقول بأن مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى العدمية ولا تستطيع تحمل نتائجها وانعكاساتها. انها ليست بحاجة الى شوبنهاور وتشاؤمه الذي يشك شللا وانما الى العقلانية المتفائلة لكانط وهيغل التي تحثك على العمل والانتاج والايمان بالمستقبل مهما يكن الحاضر كالحاً مرعباً.

نحن بحاجة إلى العدمية بمعنى واحد فقط: هو ان تنعدم فينا كل أفكار التعصب والكراهية والحقد على العالم الحديث ونزعته الانسانية والحضارية. اكتب هذه الكلمات وأنا أفكر بما حصل في العراق مؤخراً وبمجزرة الكاظمية التي ذهب ضحيتها أكثر من الف شخص دفعة واحدة! نحن بحاجة الى انعدام القرون الوسطى الظلامية فينا وحلول عهد الاستنارة والتعقل والانفتاح محلها. بهذا المعنى نقول: أهلاً وسهلاً بالعدمية!... لينعدم هذا الاخطبوط الماضويّ المتجذر فينا والذي يلاحقنا وينكد عيشتنا ويمنع التواصل الانساني فيما بيننا وليذهب الى غير رجعة. هذه هي العدمية الايجابية التي نحتاجها، ولكن ليس عدمية صموئيل بيكيت وميشيل ويلبيسك أو مسرح العبث واللا معقول. فحياتنا كلها عبث ولا معقول على عكس الحياة الأوروبية المرتبة والمنظمة التي تستطيع ان ترفه عن نفسها ببعض افرازات العبث والاعمال الفنية ذات المنحى العدمي أو التشاؤمي الاسود. فهدا لا يضيرها كثيراً وانما «تفش خلقها» به كما يقال في لغتنا العامية.

ربما كان نقد ميشيل ويلبيسك لبعض انحرافات الحضارة الغربية وبخاصة في المجال الجنسي صحيحاً. وربما كان نقده للتعصب الديني الاعمى صحيحا ايضاً. بل هو حتماً صحيح. ولكن بشرط ان يدين هذا التعصب في كل الاديان لا في دين واحد فقط. ويبدو انه أصبح يفعل ذلك مؤخراً. وبالتالي فليس هدفي في هذه المقالة ان أدين هذا الرجل الذي يعاني معاناة نفسية هائلة. بل وزار المصحات العقلية. في فترة من الفترات. وربما كانت عظمته تكمن في تجاوزه لاضطراباته الداخلية الهائجة عن طريق الابداع الادبي الحر. وربما كان هذا الابداع وما لحقه من تكريس وشهرة هو الذي أعطاه ثقة بنفسه وأنقذه من خطر الانهيار الكامل.

كل هذا صحيح. ولكن كنت أتمنى لو ان صحافتنا الأدبية تهتم بموضوعات أخرى ايضاً في هذا الموسم الثقافي الجديد. كنت أتمنى لو انها اشارت، مجرد اشارة الى كتاب هام صدر في باريس ايضاً مثل كتاب ويلبيسك بل وقبله بفترة وجيزة للباحث التونسي محمد شريف فرجاني الاستاذ في جامعة ليون بفرنسا. وهو كتاب يقع في الصميم من اهتماماتنا المعاصرة ويتحدث عن العلاقة بين «العامل السياسي والعامل الديني في الساحة الاسلامية». انه يضيء لنا العلاقة الكائنة بين الدين والسياسة على مدار ألف وأربعمائة سنة من تاريخنا: أي منذ لحظة ظهور الاسلام وحتى اليوم. هذا الكتاب هو الذي ينبغي ان يحتل واجهات جرائدنا الكبرى أو صفحاتها الأولى. فهو يساعدنا على فهم ما يجري حالياً في كل المجتمعات العربية والاسلامية من احداث مأساوية، أو صراعات مذهبية وطائفية، أو صدام مع الغرب، أو تناقض مدمر مع الحداثة العلمية والفلسفية.

انه يكشف لنا عن جذور المفاهيم والقضايا التي تشغلنا حالياً عن طريق العودة الى الماضي البعيد: أي إلى لحظة القرآن الكريم ذاته، إلى اللحظة التأسيسية للفكر العربي الاسلامي. وهو يفعل ذلك عن طريق المنهج التاريخي الحديث الذي يعري الأشياء على حقيقتها فنفهمها كما هي لا كما نتوهم انها كانت. وبالتالي فهو يساهم في اسقاط الكثير من الأوهام الشائعة والمسلمات التي نعتقد انها حقائق مطلقة بسبب هيمنة التقليد على عقولنا. وعلى هذا النحو يوضح لنا مفهوم الجهاد في القرآن أو معناه الصحيح المختلف كلياً عما تعتقده الحركات الأصولية المعاصرة التي تستخدمه بشكل خاطئ وفي غير مكانه الصحيح في معظم الأحيان.