.. بقليل من الصراحة: إلى أين يمضي العراق..؟

TT

في 31 أغسطس آب عام 2005م قتل من العراقيين وبيد العراقيين أكثر ممن قتل بيد الأميركيين في ملجأ العامرية، فمات ألف شخص دعسا وخنقا وسحقا وغرقا، وهم في ذكرى الإمام السابع على الجسر، حينما هتف هاتف أن بينكم انتحاري يفجر نفسه، ففجر القوم أنفسهم بدون مفجر. فمات سبعة أضعاف ما قتل الأمويون من آل البيت.

وجرت عادتي اليومية أن أتمشى على طريقة الفلاسفة الرواقيين الذين كانوا يتبادلون أعقد الأفكار في الهواء الطلق، وهو يتمشون في الأروقة، فسألت أحدهم عن الحادثة فقال انظر كيف دب الله الرعب في قلوبهم؟ فالشيعة في نظره رافضة وهو سني.

وفي يوم سألني شاب خليجي عن طبيب عراقي هل هو شيعي؟ قلت له: كيف توصلت لهذا الاكتشاف المثير؟ قال: كانت عيناه؟ قلت له وماذا قالت لك عيناه؟ قال: كانت تشعان بالخبث؟ قلت له: وهل تعلم أين ولد هذا الشيعي الذي تشع عيناه بالخبث؟ قال: لا؟ قلت له: في الناصرية؟ فلم يستوعب؟ تابعت: ولكن لو ولدت أنت في مدينة نورمبرغ في بافاريا من ألمانيا ما كانت ملتك ونحلتك؟ قال ماذا تقصد؟ قلت هو مجرد سؤال.

وعدد من قتل من العرب بيد العرب أكثر بعشرات المرات ممن قتل اليهود من الفلسطينيين، وفي حملة الأنفال التي أخذت اسم سورة من القرآن قتل صدام من الأكراد أكثر من كل قتلى الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي. وبالنسبة لكردي يراسلني بالأيميل فقد قال ان الكرد في طريقهم إلى تأسيس دولة شرق أوسطية تمتد من جبل أرارات إلى عفرين تضم ثمانين مليونا من الأنام، بما يرشحها لتكون أكبر دولة مستقبلية في المنطقة.

وهاشم صالح اعتبر أن العراق يقوم الآن بأعظم إنجاز إنساني في توليد دولة فيدرالية تشبه سويسرا وألمانيا، وهو رأي اقتلعه الأكراد من الإنترنت فنشروه من جبل طارق حتى بتاغونيا وهم يهتفون: بجي بجي كردستان!! وكنا سنتفاءل مع صالح لو كان الأمر صالحاً، ولكن الفرق بين الفيدرالية والتحلل الطائفي شعرة. وهو مرض يهدد كل المنطقة. والدخيل من جريدة الاتحاد الإماراتية يتنبأ بأشنع العواقب مع ملامح الدستور المزعوم فالكلام المعسول في الدستور شيء، وما يحكم الواقع طائفية تفوح رائحتها مثل غانغرين القدم السكرية.

وما رويت يحكي قصة الاستعداد الداخلي، فإذا انفلق العراق إلى سبعة فهو تحصيل حاصل، والجثة حين تموت تتحلل، فلا تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ. والمجتمع ليس كومة أفراد بل شبكة علاقات بتعبير مالك بن نبي، ونحن اليوم لم نعد مجتمعات بل أشباح مجتمعات، وركاما بشريا جاهزا للابتلاع من أمم قوية مثل أميركا والاتحاد الأوربي.

ومن مظاهر تحلل الجثث أن الرحلة تمضي بدون توقف إلى التراكيب الذرية الأولية، وكذلك تحلل الدول وموت الأمم، والعراق اليوم يتحلل إلى كردي وشيعي وسني ويزيدي وآشوري وكلداني، وهذه الرحلة لا تعرف التوقف كما لا يرحم الموت الجثة، فكما قتل الكل الكل في لبنان، فلا يستبعد حدوثه في العراق.

وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل اليوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا.

وأنا شخصيا لي أصدقاء من كل الملل والنحل على طريقة غاندي فيراسلني السلفي والخلفي والشيعي والسني والكردي والتركماني والدرزي والعلوي، فأسمع للجميع، وأتعجب، وأضحك على طريقة أرسطو فهو يقول: الحياة لمن يشعر تراجيديا وكوميديا لمن يفكر.

ووضع العراق اليوم كوميديا لا يدفع الإنسان ثمنا لمشاهدتها فهي تؤدى اليوم بالمجان ودماء العوام. وآخر النكت كانت حول شخصية الشيطان فقد اعترض قوم من جماعة ابن معاوية يزيد (اليزيديون) على التعرض للشيطان الرجيم؟ وقالوا هو عندكم شيطان رجيم وعندنا الملك طاووس الذي يحكم العالم عشرة آلاف سنة مثل المخابرات الثورية فوجب الاحتياط من غضبه.

ومن لا يعرف الخرائط النفسية يضل ويخزى. ونحن اليوم فئران تجارب تصمم في غرف البنتاجون.

وفي العراق كما يقول عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) في موسوعته عن تاريخ العراق الحديث ان ما يحكم العراق من الناحية النفسية ثلاثة تناقضات: البداوة والحضارة، والتناشز الاجتماعي (ويقصد به صراع القديم والجديد والعلماني والمتدين)، وازدواجية الشخصية مثل قصة جيكل وهايد. وخلاصة كلامه أن العراق مقسم بالطول والعرض والارتفاع في أبعاد ثلاثة. ومن كان ممزقا على هذا النحو استحال التحامه إلا باستنساخ أسطوري. ونحن أميون لا نفك الخط.

وحسب (هارولد مايرسون) يبدو الأمر كما لو كان الرئيس الأميركي جورج بوش قد اخطأ تماما في تقييمه للعراق. وكان أسهل الفصول في المسرحية الإطاحة بصدام حسين. و«ظن الرئيس بوش انه سيتمكن من صياغة دستور جديد يقوم على أسس ديمقراطية، وإنشاء جمهورية موحدة متماسكة. ولكن بكل الأسف يبدو من خلال الواقع الحالي انه قد أتى بالعراق إلى حافة التفكيك واندلاع الحرب الأهلية».

ويوافق ديفيد فيلبس هذا التوجه من نشرة (ICWA) في مقالة بعنوان (هل يقود الدستور العراقي إلى حرب أهلية؟) فيقول: «وصف الرئيس بوش عملية كتابة الدستور العراقي «بالعملية المثيرة» ناسيا أنه بدلا من أن تسهم تلك العملية في تعزيز الوفاق الوطني، فقد ضاعفت من احتمال اندلاع حرب أهلية مدمرة. فالدستور كما تمت صياغته وضع الإسلاميين في مواجهة العلمانيين، والشيعة في مواجهة السنة، والعرب في مواجهة الأكراد، ثم النساء في مواجهة الرجال. والمحصلة النهائية أن العراق أصبح بعيداً كل البعد عن تلك الصورة التي كان يحلم بها الرئيس بوش عندما وعد الشعب العراقي بالحرية».

أما مجلة المرآة الألمانية فرأت ملامح دامية من الأفق فكتبت مقالة بعنوان: انزلاق العراق إلى الحرب الأهلية. وأخطرها تركيبة الأجهزة الأمنية الطائفية. كما ذكر ذلك (بيتر دبليو غلبريث) من مؤسسة (راند) أن الجيش وقوى الأمن العراقية تتألف من «البشمركة ولا يدين هؤلاء بالولاء للعراق، وعند الحاجة يلبون نداء القادة الأكراد إلى الدفاع عن كردستان. وشجع الشيعة ميليشيا فيلق بدر على الانضمام إلى الجيش الوطني، والأخذ بزمام الأمن في مدن الجنوب الشيعية».

ولكن المشكلة كما ذكرت الشبيجل أن أمر الجنوب والشمال سهل والصعب هو بغداد ويحتاج لعملية جراحية تشبه سراييفو، فأمامها المذابح والتهجير أو مصير لارنكا في قبرص؟

ويرى البعض أنه لا يوجد بالأصل شيء اسمه العراق، وبريطانيا هي التي لحمت الولايات العثمانية الثلاث، وما يفعله الأميركان اليوم هو إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إسرائيل ارتاحت وأن إيران كسبت، وأن المحافظين الجدد خدموا ملالي إيران من حيث شعروا أو لم يشعروا.

ومن الموصل يقول الدكتور الحلاوجي ان «الجسد العراقي تجتاحه حمى ذات عارضين احدهما في الجنوب والآخر في الشمال ولابد له من التفكك من دون ضجة ولا حرب أهلية، لأنها ستشتعل في مكان آخر ولربما يدفع الثمن أكراد إيران أو سوريا، وأما حمى الجنوب وفيها التراكض إلى كرسي المرجعية التي تبتلع اكبر عدد من العوام بعد ذبح التيار العقلاني مع ذبح (الخوئي)، فلسوف تقام دويلات مذهبية متطرفة، وأما حمى الشمال فطالباني رئيس مسعود في العراق ومسعود رئيس جلال في كردستان، والعوام في شوق شديد لرؤية الحلم (دولة كردستان)، والتي ستكون القنبلة التي ستنهار إثرها معالم الخريطة الإقليمية فيصحو الكرد ذات صباح وقد فقدوا مفصلهم الذي كان يربطهم بالجسد العراقي». ولعل أفضل من كتب في حل المسألة العراقية هو (لويس إم سايمون) وهو مراسل سابق في حرب فيتنام: «سوف نحسن صنعا، إذا ما قمنا بإنفاق أموال دافعي الضرائب الأميركيين على تعليم أجيال جديدة من العراقيين، بدلا من إنفاق الأموال الطائلة على إدامة وجودنا العسكري الذي لن يؤدي إلا إلى مفاقمة الأوضاع».

لم يمر سوى أسبوع واحد على إحياء العالم للذكرى الستين على ضرب هيروشيما وناجازاكي بالسلاح النووي، حتى أشار عمدة هيروشيما بكل جرأة إلى النفاق العالمي حيث وجه كلامه إلى مواطني الولايات المتحدة فقال: «إننا نفهم قلقكم وغضبكم عندما تتذكرون ما حدث في 11 سبتمبر، لكن هل تعتقدون بأنكم أصبحتم أكثر أمنا بسياسات حكومتكم التي تحتفظ بـ10 آلاف سلاح نووي؟».