إزالة أسلحة الدمار العراقية.. لا ينبغي أن تكون الهدف الحقيقي

TT

الذي يراجع السياسة الاميركية تجاه العراق منذ عام 1990 يجد ان أسباب الأزمة برمتها لا تعود الى دكتاتورية صدام حسين، لأن هذا ليس من اهتمام أحد، لا اميركا ولا غيرها، فضلا عن وجود نظم دكتاتورية اخرى عربية وغير عربية وان كانت لا ترتقي الى مستوى الاول الذي يجابه خصوماً يتميزون عن غيرهم. واذا اريد التحديد اكثر فقد كان للأزمة سبب واحد لا اكثر هو «اسلحة الدمار الشامل»، وما يمكن ان تعكسه من تهديدات مباشرة على منطقة تمسك بشريان الحياة في العالم. ويبقى الحديث عن أمن اسرائيل مبالغة بلا معان حقيقية، لأن اسرائيل حسمت ضمان أمنها منذ امتلكت سلاحاً رادعاً يحتاج العرب الى سنوات طوال لبلوغه.

وعلى الرغم من حساسية الولايات المتحدة المفرطة تجاه اسلحة الدمار الشامل، فإنها ما كانت لتستطيع ان تحقق ما حققته في العراق والمنطقة لولا السياسات الكارثية التي اتبعها الحاكمون في بغداد، ولم يعط اجتياح الكويت مبرراً لفرض السياسة الاميركية فحسب، بل شكل مسوغاً قوياً للعرب للوقوف ضد اسلحة الدمار الشامل العراقية، فيما كان الخليجيون على وجه التحديد مع ان يكون العراق قوياً، وهم قبل غيرهم ساهموا في ذلك بأموالهم وتسهيلاتهم وتوسطاتهم الخارجية. ولم تكن للخليج (عدا قلق كويتي) هواجس «مهمة» تجاه العراق.

ولولا اوهام غرور القوة والاستهانة بالطرف الآخر وفق قاعدة التبسيط «ماذا يستطيع الطرف المقابل ان يفعل؟»، لتمكن العراق من الانضمام الى قائمة الدول النووية عام 1991، ولأصبحت صواريخه بمدى ثلاثة آلاف كيلومتر عام 1992، وعندئذ فقط، وبعد اجراء التجارب علناً، كان ممكناً العمل بقاعدة التبسيط من دون مخاطر جدية. والاختلاف بين الحالتين شكل خطيئة العمر لصدام حسين على المستوى الاستراتيجي، أما كل الآخرين من المسؤولين العراقيين فإنهم جميعاً ادوات لا أكثر، فليس للتاريخ ان يتذكر طارق عزيز حتى لو اصبح بمنزلة «الأعور الدجال»، ولا طه الجزراوي حتى لو بلغ صيت الملك المتجبر الذي قتله «كاوه الحداد ـ الكردي»، مع انهما يحاولان تتبع أثر البرامكة بسموم مشورتهم اللئيمة.

لقد تمكنت الهند من اجراء اول تجاربها النووية عام 1974 وتبعتها باكستان عام 1999بعد بضعة اسابيع من تكرار الهند تجاربها النووية للمرة الثانية، مما دفع الولايات المتحدة لفرض عقوبات لا قيمة لها على باكستان. ولولا سقوط الشاه لكانت ايران دولة نووية منذ اكثر من خمسة عشر عاما، ولما وقعت الحرب العراقية ـ الإيرانية.

دوائر الأهداف والمصالح ومنذ الأزل، لم تستند السياسة العليا إلى المقومات الاخلاقية، بقدر استنادها الى قاعدة المصالح أولا. وتتوقف نسبة الأخلاق الى المصالح على المنطلقات الفلسفية والتراثية للكيانات البشرية والمؤسساتية، ابتداء من مستوى الفرد ووصولا الى التكتلات الدولية. لذلك يختلف الأخ مع أخيه فيعزله من موقعه ويدفعه للتآمر عليه، وخير مثال على ذلك، التشققات في عائلة الرئيس صدام عراقيا، وفي دول عربية اخرى. ويختلف الابن مع ابيه ويعزله ليأخذ مكانه. وحقيقة الأمر ان المصالح ليست إلا تلاقي دائرتين متجاورتين، كلما كانت نسبة التقاطع عالية استمرت العلاقات ايجابا، وكلما تضاءلت نسبة التقاطع اقتربت المفاصلة بين الدائرتين، وتحول طرفا اللعبة الى الخصومة والعداء، أو الى الجفاء، أو غاب التعاون والتنسيق بينهما كحد ادنى. وهذه هي فلسفة الحياة، وأصبح حديث الشعارات «الزائفة» سخيفا ممجوجا، لأنه ينطلق من رؤية تعتقد ان الجهل والغباء ما زالا سائدين في بعض الأمم التي يفترض انها قطعت اشواطا كبيرة.

وفي مجال اسلحة الدمار الشامل يلتقي الغرب كله مع دول الجوار العراقي، ومع دول عربية اخرى على ضرورة نزع العراق لأسلحته التدميرية، مع احتفاظ كل دولة من الدول المعنية بمصالح ذاتية محددة. فبعض العرب يؤيدون تدمير اسلحة الدمار الشامل العراقية فحسب، ويرى القسم الآخر ان ذلك يمثل جزءا مهما من الاستحقاقات لا كلها، فيتعاون ضمن حدود مصالحه من دون ان يترك العمل لتوسيع دائرة الاستحقاقات لتكون قريبة الى رؤيته، وفي هذه الحال تكون المسألة طبيعية في اهدافها وغاياتها. اما العراقيون، فإن من المفترض ان تكون لهم خصوصيات اهدافهم، معارضين كانوا (وهم السواد الأعظم ـ الأعظم ـ من الناس وان كانوا مغلوبين على أمرهم) أم غير معارضين، داخل البلد ام خارجه، وان يتبينوا ما عليهم فعله، كي تبقى الثوابت الوطنية واضحة. والعمل بموجب قواعد المصالح الوطنية العليا، لا المصالح الفردية. وهي بلا شك قواعد تقبل الاجتهاد، لكنها ليست عسيرة الاكتشاف. ولا تتطابق مع أي مصالح اخرى، عربية كانت ام غير عربية، بقدر ما يمكن ان تقترب منها الى حافة التطابق، أو ان تتنافر الى حد الخصام.

وتبقى غاية العراقيين الرئيسية محددة بالتخلص من النظام القائم حاليا في بغداد، واقامة نظام عادل يقود البلد الى ديمقراطية متوازنة، ويجعل من الحاكم خادما للشعب لا متسلطا عليه، ولا يفرق بين العراقيين، عربهم وكردهم وتركمانهم، ولا بين دياناتهم وطوائفهم، سواء كانوا شيعة ام سنة ام صابئة أم مسيحيين، ولا يطغى احد على آخر عسكرياً أو ثقافياً...، وما عدا ذلك تبقى سياسات مكملة تتعلق بالاقتصاد، وشواغل الأمن الاستراتيجي وطرق ووسائل بناء القوة الدفاعية التي تضمن الدفاع القوي عن العراق، لا ان يصبح في مهب الرياح. ومن هنا لا بد من تفهم استحقاقات الالتزامات الدولية في مجال ازالة اسلحة الدمار الشامل، وبناء قدرة تقليدية متطورة كفيلة بحماية المصالح الوطنية، ويمكنها الدخول في منظومة أمن اقليمي، وهو وضع بات محرماً على العراق بنظامه الحالي، بما في ذلك بناء القدرات التقليدية الضاربة.

وتأسيساً على ما تم التطرق اليه، يمكن القول إنه لا غرابة في المواقف الدولية، حتى اذا تصالحت اميركا مع صدام حسين مباشرة، مع ان قرارا كهذا يعتبر معقداً جداً وغير قابل للتنفيذ على المدى المنظور، ولو كان هذا من اهتماتهم لطبعوا مع كاسترو. كما ان سياسة الطرف الآخر تبقى افضل كفيل للوصول الى وضع معاكس.

قبل ثماني سنوات، قال وورن كريستوفر في معرض اجابته عن سؤال طرحه أحد اعضاء الكونغرس الاميركي في جلسة استماع لتعيينه وزيراً للخارجية: «لن نقول بعد الآن ان العقوبات لن ترفع عن العراق حتى سقوط صدام حسين، بل سنقول انها لن ترفع حتى يطبق قرارات مجلس الامن، واذا طبقها فسيكون من المستحيل بقاؤه في الحكم»، والآن يأتي كولن باول لمناسبة مماثلة ويطرح موضوع العقوبات الذكية، وحصر كل شيء بأسلحة الدمار الشامل. لأنه متأكد من أنها ستكون سياسة ناجحة. ويشير بوضوح الى ان ما سمعه من القادة العرب يتلخص في انهم يتفهمون المخاطر التي يمثلها صدام حسين ويرغبون في العمل مع الولايات المتحدة في التصدي لها (ولم يستثن أحداً)، لكن الشارع العربي يضغط عليهم على حد قوله. وهو بذلك يوفر فرصة غير متعمدة لصدام لاعادة تهديف سياساته بالتعويل على مواقف شعبية لا حكومية، مما يمهد الطريق امام زيادة حساسيات الامن الحكومي في دول الانفتاح والبدء المبكر بالتآمر والتآمر المضاد... وهو وضع تفهمه اطراف عديدة بأنه ربما يكون صحياً، وهو في أي حال (لا مفر منه)، لأن «صدام» لم يبدأ بكل تلك المسيرة التي اختارها لنفسه لينتهي متراجعاً أمام شواغل الآخرين تحت ظل ما حققه من مكتسبات.

ويمكن بعد ذلك رسم المصالح الدولية في المنطقة بما في ذلك العربية، عدا دولتين متضررتين من وجود صدام حسين مباشرة. كما يأتي:

* ان الدول المعنية لا تريد للعراق ان يمتلك اسلحة دمار شامل، وستتحرك بالوسائل الممكنة لكبح جماح أي نشاط يخالف ذلك. واذا قبل النظام بالركون وأذعن لهذا الموقف قبل به دولياً.

* ان بقاء النظام الحالي مثير للقلق اقليمياً، وخليجياً خصوصاً، لذلك تستمر مبررات بقاء القوات الاميركية في المنطقة، وتستمر الحالة الاستثنائية، وكتحصيل حاصل لا مفر منه، لأن التهديد الذي يشكله النظام في العراق لا يقتصر على اسلحة الدمار الشامل، بل التهديد، والتخريب، والمخدرات، والتجسس، واعمال الزعزعة، والاعلام، والقوات التقليدية، ومضاعفة المطالبات، وهي استحقاقات لا يمكن تحمل نتائجها.

* الاستفادة التجارية من العراق الذي سيبقى الى اجل غير محدد سوقاً استهلاكية لا بلداً منتجاً.

* يتحول العراق الى محمية اميركية امام طفرة عسكرية ايرانية غير تقليدية وكذلك تركيا، فتركيا المنهارة اقتصادياً ستكون في خيارات اخرى لمعادلات النفط والماء. وانها لشائنة تاريخياً ان يتحول العراق الى محمية، حيثما كان الحامي.

* وتحت هذا الوضع يخنق النظام خارجيا وتطلق يده على العراقيين، وهي حالة لا يوجد أسوأ منها على الإطلاق. فما شأن العراقيين والحال هذه بتجريد النظام من اسباب القوة الخارجية طالما اطلقت يده عليهم؟

صدام في وضع لا يتطلب التراجع لقد اعتبر رفض النظام عودة المفتشين الدوليين مؤشراً خطيراً على نيته مواصلة انتاج اسلحة الدمار الشامل، ومن السذاجة الاعتقاد بأنه سيتخلى عن نياته، لأنه يبحث عن نصر مفقود، ويعتقد ان بلوغه الهدف النووي يمكن ان يعطي مبرراً لما قام به وتغطية الخسائر الفادحة التي تسبب بها، على الرغم من انه كان ممكناً تحقيق الهدف من دون خسائر تذكر. لذلك لا بد من توقع المزيد من الأزمات بطريقة أو بأخرى، واغلب الظن ان العراق سيصبح دولة نووية بمرور الوقت، كما ان تصنيعه صواريخ بعيدة المدى مجهزة برؤوس تقليديه وبيولوجية وكيماوية فعالة سيكون امراً واقعاً خلال سنوات قليلة جدا.

ان المعارضة العراقية يمكن ان تستغل بصدق حساسية العالم تجاه اسلحة الدمار الشامل وتتفهمها جدياً ضمن دوائر تقاطع المصالح لا خارجها، وعلى اساس استخدام الموضوع كوسيلة لا غاية، وعلى اساس الغاية المركزية المتمثلة بتغيير النظام الحالي بنظام عادل يقود الى الديمقراطية، وهو هدف يستحق التضحية، ويتطلب استحقاقات مقابلة لا تثلم المصالح الوطنية العليا. لأن تقدم العراق وحريته واستقراره ورفاه شعبه ورفع القيود عنه هي عناصر اهم من اسلحة الدمار الشامل. وبخلافه ستجد المعارضة نفسها غير معنية بمصالح غيرها، الا بقدر ما ينفع لتحقيق الغاية، مع استمرار تصديها للنظام بما هو ممكن من الطرق.

ان عملية الشد بين نظام صدام والعالم حول اسلحة الدمار الشامل تعتبر حالة افضل من ان تترك يده طليقة. لكن استمرار صراع بمثل هذا الشكل لسنوات اخرى، يسبب تحجيماً للدور العراقي المطلوب في مجالات الحياة. لذلك لا بد من ان يربط العالم ربطاً مقبولاً بين ازالة اسلحة الدمار الشامل وانهاء سيناريو صدام الذي أصبح مملاً. فمن يصدق انهم لا يستطيعون التخلص منه؟ وبخلاف ذلك فإن من الخطأ الفظيع ان يترك صدام يزايد على المعارضة العراقية وطنياً في مجالات السلاح، بعد استحقاقات خيمة صفوان، وبعد الكم الهائل من الخسائر التي مني بها العراق بسبب نظامه، وبعد اذعانه للقرارات الدولية وتدميره القسم الاعظم من اسلحة الدمار الشامل حتى قبل هروب حسين كامل، من اجل البقاء على كرسي الحكم.

* لواء ركن ومدير سابق للاستخبارات العراقية