القمة العربية... سأعلّق الجرس!

TT

تقتضي الامانة ان اقول قبل ان اكتب حرفا واحدا، ان كل ما سأورده هنا مبنيّ على معلومات متاحة للجميع، ولم احصل على شيء منها بسبب موقع رسمي في الحاضر او الماضي. وتقتضي الامانة ان اضيف ان كل الآراء التي سأعرب عنها فيما يلي لا تمثل سوى موقف كاتبها، هذا المواطن العربي الحزين المُحبط.

بادئ ذي بدء، ألحظ انه كلما اقتربت قمة عربية قامت قيامة الكتاب والصحافيين العرب، ولم تقعد. تنهمر من المحيط الى الخليج مئات المقالات على القمة بمطالب عجائبية تتوقعها الأمة العربية من قادتها. ثمة خطأ منهجي خطير إمّا في تفكيري او في تفكير مئات المعلقين والصحافيين العرب كاتبي هذه المقالات. وافضّل، لأسباب سلمية، ان يكون الخطأ المنهجي خطأي أنا! ما الذي يجعل الخلافات العربية تختفي لمجرد ان الزعماء العرب يجلسون في قاعة واحدة؟ بعبارة اخرى، هل توجد عصا سحرية، اسمها عصا القمة، تستطيع في جلسة واحدة ان تحل النزاعات التي فشل في حلها جموع من الوزراء والسفراء والمبعوثين والاتصالات اليومية؟ اقول، وأجري على الله وحسابي عليه سبحانه، ان القمة لا تملك عصا من أي نوع، لا من النوع السحري، ولا من النوع الذي يُهش به على الغنم. واضيف، واجري على الله وحسابي عليه سبحانه، ان اي تصوّر غير هذا هو رحلة لذيذة في وديان الاوهام وعوالم الاماني الساحرة.

لا توجد وصفة سحرية تجعل من اجتماع عشرين زعيما امرا يختلف عن الاجتماعات الثنائية او الثلاثية او الرباعية. ولا توجد وصفة سحرية تجعل الزعماء البعيدين عن عواصمهم قادرين على حل معضلات عجزوا عن حلها وهم مستقرون مستريحون في عواصمهم. المشكلة بين العراق والكويت، وسوف اعود الى تفاصيلها بعد حين، كيف تختفي لمجرد انعقاد القمة؟ ألم يشهد الرأي العام الشريط المسرّب عن القمة المبكية/المضحكة التي اعقبت احتلال الكويت؟ والمشكلة بين القيادة السورية والقيادة الفلسطينية.. لماذا تختفي لمجرد وجود شهود على لقاء الزعيم السوري والزعيم الفلسطيني؟ وعقدة الوجود السوري في لبنان.. كيف يمكن ان تمحوها القمة؟ والخلاف بين ليبيا وفلسطين كيف يمكن ان يتطاير في الهواء لمجرد انه يُبحث في عمّان؟

القمم العربية، منذ ان وجدت، تبحث كل شيء (هناك قرارات توحيدية تفوق القرارات التي تربط الولايات المتحدة الامريكية!!) ما عدا الشيء الاساسي المركزي الذي كان عليها ان تركز عليه منذ اجتماعها الاول: ضمان الثبات والاستمرارية للدول العربية القائمة. الحق اقول لكم، ان كل من يدّعي ان هناك شرعية للدول القطرية القائمة تتجاوز حدود هذه الدول لا يعلم او يعلم ويخادع. فلنر بعض ماذا حدث منذ ولادة الجامعة.

عند قيام الجامعة كان الملك المصري يحمل لقبا رسميا هو «ملك مصر والسودان»؟ هل نسي المصريون جميعا والسودانيون كافة هذا المطلب؟ وبعد ان قامت الجامعة بسنوات قلائل ولدت المملكة الاردنية الهاشمية واكثر من نصفها ارض فلسطينية. هل نسي احد من الاردنيين او الفلسطينيين تلك الفترة؟ وخلال عمل الجامعة العربية تحولت مصر وسوريا الى الجمهورية العربية المتحدة (بفعل ضباط سوريين) وتعاملت الجامعة مع دولة واحدة بعد الدولتين، ثم حدث انفصال (بفعل ضباط سوريين) وعادت الدولتان. وخلال عمل الجامعة العربية ولد اتحاد عربي بين العراق والاردن بموجبه ما زال ملك الاردن ـ كما صرح الملك حسين رحمه الله قبل وفاته بشهور ـ الوريث الشرعي لرئاسة الاتحاد. وخلال عمل الجامعة حدث اتفاق على الوحدة بين العراق وسوريا ومصر لم يقدر له ان يرى النور. وحدث اتفاق آخر بين سوريا ومصر وليبيا لم يعش بدوره. وحدثت وحدة اندماجية بين ليبيا وتونس اختفت بغتة، دون ان يعرف أحد، حتى هذه اللحظة، كيف ولدت وكيف ماتت. وتعاملت الجامعة العربية مع يمنين، ثم مع يمن واحد، ثم مع يمنين يخوضان حربا اهلية، ثم مع يمن واحد. وهذا كله غير الوحدة السورية ـ العراقية التي انتهت نهايتها الدموية المعروفة، وغير مشاريع الوحدة بين ليبيا وعدد لا يحصى من الدول (تحول الآن الى القارة الافريقية كلها!)، ولا بد ان القارئ اللبيب يملك امثلة اخرى عديدة.

نحن اذن بصدد جامعة لا تتعامل مع دول مستقرة ثابتة لا تحول ولا تزول، بل بصدد جامعة لكل عضو من اعضائها اجندته السرية الخاصة نحو باقي الاعضاء، وهي اجندة تختلف بنسبة مائة في المائة عن الأجندة القومية المعلنة.

لنعد الى العراق والكويت. ذات ليلة ليلاء احتل العراق الكويت، واعلن انه اعاد الفرع الى الاصل (والغريب ان جامعتنا الغريبة طردت مصر من عضويتها بعد الصلح الاسرائيلي المصري ولم تطرد العضو الذي أكل عضوا آخر!).

ولم تكتف حكومة العراق بضم الكويت. بل اعلنت وقتها ان جميع دول الخليج «ظواهر هلامية» تفتقر الى ابسط مقومات الدول. وما ازال اذكر تصريحا للسيد طارق عزيز قال فيه ان العراق سيكون اول من يرحب باحتلال السعودية لقطر، فلماذا تعارض السعودية احتلال العراق للكويت؟ وما ازال اذكر تصريحات عراقية مليئة بالاسى لأن الامارات العربية المتحدة لا تتاخم العراق وبالتالي يتعذر ضمها كما ضُمت الكويت. (عجيب امر الذاكرة التي تبتلي بالنسيان، وهذه قضية اخرى من الافضل تجنبها)! هل تغير شيء الآن بعد عشر سنوات من الاحتلال والتحرير؟ ألم يخرج علينا ابن الرئيس العراقي بخارطة تجعل الكويت جزءا من العراق؟ ألم يصفق المجلس الوطني العراقي لهذه اللوحة الفنية الاخاذة؟ ألم يعلن الرئيس العراقي نفسه، في خطاب علني، ان احتلال الكويت كان «عملية تأديبية» حان الأوان لتكرارها؟ استحلف كل عاقل بالله ـ وافترض ان في قراء «الشرق الأوسط» عددا من العقلاء ـ كيف يمكن تحقيق «مصالحة» بين العراق الذي ما يزال يتحرق الى ضم الكويت.. وبين الكويت؟ أقول ما قاله شاعرنا العربي قبل قرون:

هذا كلام له خبيء معناه: ليست لنا عقولُ! وحتى لا يتصور احد ان المشكلة العراقية ـ الكويتية حالة شاذة فردية اسارع فاقول ان «الحالة العراقية» توجد في كل مكان من الامة العربية. بمعنى آخر، لا يوجد في اي ركن من اركان الامة العربية ايمان راسخ ثابت ان الدول القائمة مقدسة لا تمس. وهنا يتضح السر «الذي حارت البرية فيه»: معضلة الخلافات الحدودية العربية. عندما تختلف فرنسا وبريطانيا على حدود لا نجد في الخلاف ما يمس ايا من الكيانين القائمين. اما الخلافات العربية الحدودية فمعظمها، واوشك ان اقول كلها، يلمس، بصفة اساسية، جوهر الكيان القائم. الذين يعتقدون ان الامر يتعلق بآلية عربية قضائية يجهلون انه لا توجد آلية يمكن ان تقنع دولة ما بشطب نفسها لكي تحل خلافها الحدودي. فلنعرض بعض الامثلة الحدودية، دون ان نتحدث عن حق او باطل، او عن طرف مصيب وعن طرف مخطئ. كانت المملكة العربية السعودية ـ ذات يوم ـ تطالب بالبريمي، هل يمكن تصور دولة اسمها أبوظبي بدون البريمي؟! وكانت المطالب اليمنية (غير الرسمية وغير المعلنة) تشمل مقاطعتين كاملتين من المملكة العربية السعودية، هل يمكن ان نسمي مطالبة كهذه خلافا حدوديا؟! وكانت المطالب القطرية، ذات يوم، تشمل ثلث اقليم البحرين; هل يمكن ان تقوم لدولة قائمة اذا فقدت ثلث اقليمها؟ حسنا! زالت هذه الخلافات، بفضل الله، ولعل زوالها النقطة المضيئة الوحيدة التي شهدها الواقع العربي خلال العقود الحزينة الاخيرة.

وماذا عن الخلافات «الحدودية» التي لا تزال قائمة؟ هل الخلاف بين العراق والكويت خلاف على ترسيم حدود ام انه منصب على الكيان الكويتي ذاته؟ هل الخلاف بين المغرب والجزائر خلاف على بضعة كيلومترات ام على مناطق شاسعة هائلة يستطيع من يسيطر عليها، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، ان يضاعف موارده على حساب جاره؟ وهل للوجود السوري في لبنان اي علاقة بحدود؟ كل من يتأمل في اي خلاف «حدودي» عربي يجد انه، في حقيقته، يتجاوز الحدود الى وجود الكيان ذاته.

والخوف على الكيانات القائمة هو الذي يفسر لنا ما نراه من غرائب وعجائب على الساحة. العلاقات بين موريتانيا واسرائيل لا علاقة لها باستراتيجية عالمية ولكنها ذات صلة مباشرة ببحث موريتانيا عن ضمان لوجودها. وما ينطبق على موريتانيا ينطبق على كل دولة عربية اقامت علاقة مع اسرائيل. اما آن الاوان لكي نعترف ان عددا من الدول العربية تعتبر جيرانها العرب اخطر على وجودها من اسرائيل؟ اما آن الاوان لكي نعترف ان علاقات هذه الدول مع اسرائيل تنصب في خانة البقاء والدفاع عن النفس لا الخيانة العظمى؟ ألا نعرف ان اسرائيل تعرف هذه الحقيقة؟ ومتى ندرك انه بمجرد تغير هذه الاوضاع سوف تتغير نظرتنا الى اسرائيل ـ ونظرة اسرائيل الينا؟

بكل تواضع، اتوجه بنداء متواضع الى سادتي الزعماء العرب; ايها القادة، انسوا، مؤقتا، المصالحات بمختلف انواعها واشكالها. وانسوا، مؤقتا، الاسواق العربية الموحدة والمناطق الحرة. وانسوا، مؤقتا، حتى الانتفاضة الفلسطينية التي تمزق قلوبنا. ركزوا، سادتي القادة، على صياغة ميثاق عربي جديد، تضمنه الجامعة، وتضمنه بعد الجامعة الاسرة الدولية كلها. ميثاق يقول: ان الدول العربية القائمة ـ بصرف النظر عن حجمها وكيفية قيامها ـ موجودة لتبقى، ولا يجوز المساس بها على اي نحو، ولا يجوز ان «تُضم» او «تُوحد» الا باجراءات دستورية يعترف العالم كله بشرعيتها. اكدوا في الميثاق أنه لن يسمح بعد اليوم لدولة عربية ان تأكل جارتها، او ان تضمها في وحدة «من صنع ضباط».

اذا وصلتم الى هذا الميثاق، وكنتم صادقين في صياغته وتطبيقه، امكن لبقية الامور ان تعالج في حينها وتحل. اما اذا عجزتم عن وضع اصبعكم على مواطن الخلل الرئيسي في الجسم العربي، فسوف يكون شأنكم، سادتي القادة، شأن جماهيركم: تطلبون ما لا يمكن، وتتحدثون عما لا يكون! لقد علقت الجرس! اللهم فاشهد.