إعلانات العراق.. انتفاء الوهم!

TT

كادت أنفاسنا تتوقف ونحن نتابع القلق البادي على وجه السيدة العراقية التي وضعت مولودها في غرفة العمليات في المستشفى وسط اصوات الانفجارات في مكان ما في العراق لا نعرف أين هو.. عينا السيدة ووجهها الشاحب شخصت بتوجس نحو الباب الموصد وهي تهدهد رضيعها.. فتح باب الغرفة على وقع موسيقى فرحة ودخل الأب سالماً مبتسماً.. نجا الأب من الانفجار والتم شمل العائلة وتحقق الحلم بالوحدة وشعرنا نحن المشاهدين براحة غامضة لا ندري مصدرها..

الثواني التي استغرقها هذا الكليب الإعلاني الذي تبثه تكراراً الفضائيات العربية دفعتنا لأن نعايش بشكل مكثف ولو بصورة متخيلة الأحوال المقلقة والمتعددة التي يعيشها العراقيون لحظة بلحظة، والتي يحرص الإعلان دائماً أن يؤكد لنا أنها ستحمل خواتم سعيدة..

لكن الابتسامة الساذجة المطمئنة التي ارتسمت على وجوهنا حين انتهى الكليب سرعان ما ذوت لتتحول إلى مرارة مع تواتر صور الأخبار الحقيقية الدامية من العراق..

منذ الاجتياح الأميركي لبغداد وانهيار نظام صدام حسين تكرر الفضائيات العربية بث إعلانات ممولة من قبل الإدارة الأميركية عن العراق.. تسعى هذه المقتطفات الدعائية إلى ترويج شعارات حول الوحدة والديمقراطية والحرية وحول المستقبل المشرق الذي ينتظر العراقيين. وغالبا ما تحاول هذه الإعلانات أن تواكب الظرف السياسي والأمني في البلاد، فإذا كانت الانتخابات على الأبواب فهي تحث على المشاركة وإذا لاحت خلافات بين العراقيين سارعت الكليبات إلى الترويج للوحدة.

لا شك أن الكليبات الدعائية هذه ناجحة من حيث الفكرة والشعار وحرفية التنفيذ, لكنها في نهاية الأمر لم تتجاوز حدّ الحلم أو الرغبة والطموح.. فالهوة بين ما تحاول هذه الإعلانات أن تروج له وبين الواقع العراقي تتسع يوماً بعد يوم حتى بات يصعب جسرها..

الشاشات نفسها التي تبث الإعلانات هذه غالباً ما تقطع بثها لتنقل بثاً مباشراً عن تفجير هنا وحادث مؤسف هناك أو تصريح سياسي حاد ضد طائفة أو حزب..

ذروة هذا التناقض كانت الأربعاء الماضي حين غطت الشاشات صور مأساة جسر الأئمة في بغداد حيث تسببت شائعة حول وجود انتحاري بتدافع ومقتل نحو ألف عراقي معظمهم نساء وأطفال..

تلك كانت الصورة الحقيقية..

لم تكن صورة مشغولة لا من حيث الفكرة أو الزاوية التصويرية أو الاضاءة أو الشعار والموسيقى واختيار الشخصيات..

كانت صورة حية بكاميرات غير محترفة تتحرك عشوائياً وبألوان باهتة لجثث تتكدس ووجوه تتألم وصرخات بكاء ولوعة وسواد يغطي معظم المشهد.. في أحيان كثيرة كانت الصورة التي تصلنا صامتة يغطيها تعليق المذيع أو صوت مسؤول يعطينا المزيد عن تفاصيل ما حدث فترك لخيالنا أن يكمل باقي الحكايات..

قبل سنتين وأكثر وحين بدأ بث المقتطفات الدعائية المتعلقة بالعراق كنا نقول سراً: دعونا لا نتشاءم، لعل الصورة الجميلة التي نراها في الإعلانات تتحقق، لكن الوضع في العراق استفحل إلى حد باتت تقنية الترويج هذه عاجزة حتى عن إيهامنا باحتمالاتها..

لقد باتت تلك الإعلانات ليست أكثر من مخدر فقد حتى قدرته على تسكين الألم.

diana@ asharqalawsat.com