رؤية متجددة للإسراء والمعراج

TT

قبل أيام ثلاثة احتفل العالم الإسلامي بالإسراء والمعراج. إن للاحتفال بالمناسبات الدينية والوطنية ثلاث منافع: ذكرى للماضي، ودروس للحاضر، والتزام للمستقبل. معان جمعتها الآية: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون).

الذات الإلهية، وحقيقة إبليس، والإسراء والمعراج من الأمور الغيبية التي يستحيل إدراك كنهها ولكن لا تغيب آثارها عن عقل الإنسان ومشاهداته. الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ولكن الوجود المشاهد الجمادي، والنباتي، والحيواني لا بد له من خالق.

والإنسان المبدع المتجدد الذي عمر الوجود بإبداعاته الفكرية والتكنولوجية والفنية كائن ذكي ومبدع لا بد له من مهندس عليم خبير أحكم صنعه في أحسن تقويم ووهبه ملكاته. هكذا نستدل على الله بآثاره في مخلوقاته كما جاء في الذكر الحكيم: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) المعنى الذي صاغه الأديب:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

كان داروين قدم بنظريته عن النشوء والارتقاء تصورا لأصل البشرية يجعله حركة صدفة ذاتية تقودها عملية الانتخاب الطبيعي. هذا التصور وجد رفضا من كثير من العلماء. آخرهم عالم أبحاث الخلايا «ميخائيل بيهي» الذي نشر كتابا هذا العام بعنوان «صندوق داروين الأسود»، قال فيه ان حقائق الخلايا تؤكد خضوعها لخطة ذكية.

العلاقة بين الخالق والمخلوق تقوم حتما على الامتثال. الوجود الطبيعي مسلم لله كرها والوجود الإنساني مسلم له إن فعل طوعا.

الإنسان جزء من العالم الطبيعي ومفارق له في آن واحد. جزء منه لأنه خاضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ومفارق له لأن فيه قبسا من روح الله على حد قوله تعالى: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ). لذلك صار الإنسان الحيوان الوحيد الواعي بذاته الحر في اختياره (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).

كنه ابليس غائب عنا ولكنه يمثل نقيض الحق، والخير، والجمال، في الكون. نقيض يعطي حرية الاختيار الإنساني معناها ويضع الإنسان أمام امتحان فيه يكرم أو يهان (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا أمنا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون)؟.

إذا صح أن للوجود خالقا فإنه لن يتركه بلا هداية (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، كافة موجودات الطبيعة تقوم علاقة الله معها على قوانين الطبيعة، ويتبع لذلك الإنسان في جانبه المحكوم بالطبيعة، أما ما يتعلق بجانب اختياره الحر فإن الاتصال به عن طريق الوحي : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون).

الإسراء والمعراج هما من وسائل الاتصال بين عالمي الغيب والشهادة وهى كثيرة ذكرتها الآية: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) اختلف المسلمون في كنه الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهي اختلافات في مسألة غيبية ولكن لا خلاف على مدلوله وهو أن رسالات الوحي كلها واحدة في جوهرها: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). ومن مدلولاته أن الرسالة المتأخرة (المحمدية) هي الشاهد على ما سبقها من الرسالات رغم ما ضاع من كتبها، فهي وحدها المحفوظ كتابها: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون). وأنها خاتمة لتلك الرسالات، وهي عقيدة صدقها الواقع التاريخي للإنسان فمنذ عهدها انقطعت النبوة.

واختلف الناس حول كنه المعراج ولكن لا خلاف على مدلولاته: انه وسيلة اتصال خاص بين عالم الغيب وعالم الشهادة فالله يفعل ما يريد (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ). الإسراء والمعراج حدثان يؤكدان علو مكانة محمد (صلى الله عليه وسلم) وهي تزكية صدقها الواقع، مثلا كتب عالم الاجتماعيات مايكل هارت كتابا بعنوان: «المائة» تطرق فيه ـ وهو مسيحي غربي ـ لأهم مائة شخص في تاريخ الإنسانية ووضع محمد (صلى الله عليه وسلم) الأول في قائمتهم، مبررا ذلك بأنه كان بالغ النجاح في عالمين معا: كان نبيا وكان رجل دولة من الطراز الأول.

قصص الأنبياء مختلف عليها، لكن سيرة محمد (صلى الله عليه وسلم) موثقة تاريخيا وتنهض بمفرداتها دليلا قويا على صحة دعواه، قال عالم الاجتماعيات اللاهوتي المسيحي مونتجمري واط في مقدمة كتابه عن محمد (صلى الله عليه وسلم): إن افتراض أن محمدا كاذب في دعواه افتراض غير معقول!.

للإسراء والمعراج مفردات روحية يسهل على أصحاب التجارب الروحية تصديقها، فالاتصال الروحي بين الله والإنسان لم ينقطع بانقطاع النبوة. قال تعالي: (اتَّقُوا اللَّهَ وَأمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ). وجاء فيما روى البخاري عن الرسول (ص) قوله: (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ).

إن أجمل تصور لمعارج صغرى للصالحين جاء في قول أحدهم:

قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرون

وأجنحة تطير بغير خفق إلى ملكوت رب العالمين

وأجمل منه ما قالته السيدة رابعة العدوية:

وأما الذي أنت أهل له

فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فالناس إزاء الحقائق الروحية إما موقنون بصحتها لأن تجاربهم الروحية من جنسها (لا يعرف الشوق إلا من يكابده)، أو مصدقون لراويها، أو فريق ثالث فاتته التجارب الروحية وفاته التصديق، هؤلاء يحاولون في أمر الإسراء والمعراج إخضاع مفردات تتجاوز مقدرات العقل للعقل، مخضعين المفردات الروحية للصور المادية. العقل بوصلة هادية في عالم الشهادة، لكنها لا تصلح للملاحة في عالم الغيب: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ).

في الختام: إن ذكرى الإسراء والمعراج هي أقوى شاهد على وحدة الأديان الإبراهيمية وإن اختلفت الشرائع، وخير دال على الرسالة الخاتمة ومزج لها، وهي أيضا أكبر مؤكد على الحق الفلسطيني في القدس. صحيح أن أحقية أهل فلسطين بالقدس تقوم على حقائق تاريخية لا جدال فيها، ولكن بالإضافة لذلك فإن أولى الناس بإدارة شؤون القدس هم الذين تعترف ملتهم بالأديان الثلاثة بنص القرآن لا الذين يقيمون علاقتهم الخاصة بالله على حساب الآخرين ويعتبرون ديانتي المسيحية والإسلام هرطقة بنص مقدساتهم..

فهنيئا للأمة الإسلامية بذكرى الإسراء والمعراج.