التقارب الباكستاني الإسرائيلي: «شطرنج» في الشرق الأوسط ... والعرب يلعبون «طاولة»

TT

قبل يومين دعيت إلى برنامج إذاعي للتعليق على اللقاء التاريخي (العلني) بين وزيري خارجيتي باكستان وإسرائيل في اسطنبول.

المناسبة تستحق التسجيل مع أن بين البلدين قاسمين مشتركين مهمين جداً ومترابطين جداً.

القاسم الأول أنهما البلدان الوحيدان في العالم ـ باستثناء الفاتيكان طبعاً ـ اللذان أسسا خصيصاً ليكونا وطنين «دينيين»، باكستان للمسلمين وإسرائيل لليهود. والثاني أنهما بحكم هويتيهما الدينيتين كانتا دولتين حليفتين للغرب ومدعومتين بقوة منه في وجه القوى الاشتراكية التي قادها، وفق مصطلحات أيام زمان ... شيوعيون ملاحدة، وهما ما زالتا حتى اليوم حليفتين للغرب ضد خصومه الذين يصنفهم بين دعاة «الإرهاب» و«الغوغائيين من رافضي البراغماتية».

بالرغم من انتهاء الحرب الباردة ، ظلت هاتان الدولتان ركيزتين للسياسة الأميركية في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ومن المفهوم أنه لولا رضى واشنطن عن المؤسسة السياسية ـ العسكرية الباكستانية واطمئنانها إلى ولائها لها لما تغاضت عن «القدرة النووية» الوحيدة في العالم الإسلامي. ولقد ثبتت صحة رهان واشنطن على ولاء إسلام آباد، وتحديداً الجيش الباكستاني، لدى إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش حربه على «الإرهاب» في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

فالقيادة العسكرية الباكستانية وفرت العمق الاستراتيجي الحاضن لحرب «المجاهدين» (أي الأصوليين) الأفغان ضد الجيش السوفياتي خلال عقد الثمانينات، ثم دعمت استيلاء غلاة «الأصولية» من حركة «طالبان» على السلطة في كابل أملاً بتوحيد أفغانستان تحت بندقية واحدة لتسهيل وصول نفط آسيا الوسطى إلى المحيط الهندي، وفجأة انقلبت بعد 11 سبتمبر إلى الحليف الدولي الرئيسي في حرب بوش على «الإرهاب» الاسلامي.

أمر آخر يستحق الإشارة إليه، هو الأسلوب الذي اعتمدته إسلام آباد للاعلان عن اللقاء وتسويغه، ومن ثم إطلاق مجموعة من «بالونات الاختبار» تمهيداً للخطوات التالية. فقد حرصت على القول إن زيارة اسطنبول تقررت بعد «ضوء أخضر» من مرجعيات عربية بينها السلطة الفلسطينية نفسها، وذهب نفر آخر إلى القول إن القيادة الفلسطينية نفسها طلبت ذلك. وهنا أجد مشكلة في تقبل أمرين: أولهما الإيحاء الباكستاني الرسمي بأن خطوة بخطورة إخراج التطبيع الباكستاني ـ الإسرائيلي إلى العلن محكومة بـ«فيتو» فلسطيني او عربي، وهذا قطعاً إيحاء باطل. والأمر الثاني ـ إذا صح وجود طلب فلسطيني ـ أن القيادة الفلسطينية متفائلة بأن هذا التطبيع من شأنه تحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني في وجه خطط آرييل شارون راهناً... وربما بنيامين نتنياهو قريباً.

والدليل القاطع على أن اعتبار «احترام» المشاعر العربية كان مسألة هامشية ظهر بعد أقل من 24 ساعة من اختتام اللقاء، عندما أخذت وسائل الاعلام الباكستانية، الحكومية والمقربة من الحكومة، تتحدث عن المنافع العظيمة التي ستجنيها باكستان من علاقات إيجابية مع إسرائيل، أهمها كسب رضى واشنطن وتحييد تل أبيب إزاء تطور العلاقات بين إسرائيل والهند.

لا شك أن فرض تطبيع العلاقات مع إسرائيل على الدول العربية والإسلامية (أو بالأصح ...من بقي منها محروماً من هذه النعمة) جزء أساسي في استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي. والواضح جداً أنه في عهد إدارة بوش ـ أكثر من أي وقت مضى ـ لا تتعامل واشنطن مع إسرائيل كدولة منفصلة عنها، فهي وإياها كيان واحد. وبالتالي، فعدو أي منهما عدو للأخرى، وحقاً مما سوّق لـ«سياسة العصا الغليظة» الأميركية في المنطقة ضد العراق وغير العراق «التهديد» المزعوم الذي تتعرض له إسرائيل من قوى «الإرهاب» ومَن يدعمونه ويحمونه.

هذا، وبالنظر لأن واشنطن في عهد أحاديتها أضحت قادرة على ابتزاز كل طرف في المنطقة من «حيث يؤلمه»، صارت الحكومات الإقليمية تتفنن في إيجاد الأعذار «المنطقية» الملائمة للقبول بالإملاءات. فتركيا حتى في ثوبها الإسلامي القشيب تحلم بفردوس أوروبا... ولا فرصة لفتح البوابة الأوروبية من دون مفتاح أميركي، وباكستان دونها هاجس الهند التي تخلت عن عقد الحرب الباردة وشرٌعت أبوابها ونوافذها لتل أبيب بعد واشنطن، وإيران ستظل «دولة مارقة» قابعة في «محور الشر» إلى أن تنفض عنها حالة العداء مع إسرائيل وتسير على سكة التطبيع.

أما العرب... وما أدراك ما العرب..!

مسؤول حكومي إسرائيلي قال خلال البرنامج الإذاعي (الذي بدأت به هذه المقالة) إنه لا يفهم لماذا لا تقيم كل الدول العربية علاقات طبيعية مع إسرائيل مع أن لا خلافات مباشرة بينها وبين الدولة العبرية (!)، معتبراً أن أزمة العرب مع إسرائيل هي «القضـــــية الفلسطينية»... وبالتالي ما شأن غير الفلسطينيين بها؟

كلام منطقي فعلاً. لكنه هذا بالضبط ما كان العرب يسمونه «سياسة فرّق تسد» قبل حقبة «البراغماتية» الحالية. ومثل هذه السياسة، كما يثبت لبعض العرب كل يوم ـ بل كل ساعة تمر عليهم وهم بنعمة الغفلة رافلين ـ تدفعهم في سباق مع الزمن من أجل المحافظة على ما تبقى لكياناتهم الهشة من وحدة جغرافية، على اعتبار أن مسألة الوحدة الوطنية مشكوك بها منذ بعض الوقت.

نعم، ثمة عدد من الدول العربية متشوّق لإعادة العلاقات المعلّقة مؤقتاً ـ وعلناً ـ مع إسرائيل، ولعل بعضها لم يعلّقها أصلاً. وعليه قد يقول قائل لماذا نلوم الأتراك والباكستانيين على ما فعلناه ونفعله نحن؟

الحقيقة التي ما زال عند البعض خجل من قولها هي أن التطبيع الباكستاني ـ الاسرائيلي «الكامل» آت سواء قامت الدولة الفلسطينية أو لم تقم. والانهيار الإقليمي متسارع الخطى نحو حالة «الفوضى المنظمة» في ظل مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، والمؤسف أنه بينما يدرس جيران العرب نقلاتهم على «رقعة شطرنج المنطقة بواقعية انتهازية، يبدو العرب على مائدة بعيدة جداً... يلعبون «طاولة»!