جنوح سفينة.. أم جنوح شعب؟

TT

الشريط المر «اللوح الاسود» الذي ذاقت المخرجة الايرانية الشابة سميرة مخملباف بإنجازه طعم الفوز بأرفع الجوائز العالمية، وبذيوع صيتها كمخرجة ذات شأن، كان محوره محنة الاكراد، وكان شريطا كرديا بكل تفاصيله، وبمعظم مكوناته.

عالج الشريط الذي خرج كل من شاهده محملا بالأسى والقنوط حاضر هذا الشعب ومستقبله الذي يتراقص على كف أكثر من عفريت.

الفيلم عرض سيرة مجموعة من المدارس المتنقلة التي تستطيع أن تعتلي أعلى القمم وأكثرها وعورة بحثا عن التلاميذ.

لم يكن مهما شكل التلميذ أو عمره أو جنسه في عقيدة مخملباف ومعلميها الفدائيين في الفيلم، المهم أن ينتشر العلم ويعم لأنه الحل الأمثل لانعتاق هذا الشعب من قيوده المتعددة التي أبقته في حالة يرثى لها من التخلف، وهو ما أظهره الفيلم بشيء من المبالغة أزعجت الكثير من مشاهديه الاكراد.

معلمو مخملباف الجوالون حملوا سبوراتهم السوداء الكبيرة على ظهورهم، وراحوا يتسلقون الجبال الوعرة بلا كلل بحثا عن طرائدهم الثمينة.

اعترضوا طريق المهربين والمهاجرين وعابري السبيل، عرضوا بضاعتهم النبيلة على الفلاحين في حقولهم والنساء والاطفال في بيوتهم المعلقة في عنان السماء، بمقابل وبلا مقابل.

المحور الثاني في الفيلم كان اظهار تعلق الاكراد بأرضهم حتى اذا تحولت الى رماد، أو تحولوا هم الى عجزة معتوهين بتأثير القنابل الكيمياوية التي سبق أن انهالت على مناطق عديدة من كردستان.

الكردي الذي قال يوما وهو يحتمي بصخرة ناتئة من صخور جبال كردستان: «بندقية وحفنة تبغ، وليأت العالم»! تجمد الدم في عروقه عندما أدخل صدام حسين الأسلحة الكيماوية وانعدام الضمير والشرف في معادلة الحرب.

امتلك صدام الهواء الذي كان الفدائي الكردي يستنشقه، فسقط كما تسقط أوراق الخريف.

بكى شجعانهم عجزهم أمام رياح الخردل السامة التي هبت عليهم من بغداد، والتي وصلتهم أنسامه السوداء القاتلة على سبيل التجربة قبل أن تهب دفعة واحدة خلال لحظات لتطفئ الحياة في أحداق أطفال ونساء وشيوخ مدينة كاملة.

الفيلم ابتدع بذكاء قافلة نادرة من العائدين الى المدينة المفجوعة، عدد كبير من المسنين ترافقهم امرأة في متوسط العمر وطفلها الوحيد.

المجموعة الهائمة على وجهها باتجاه الحدود بين كردستان وكردستان تلتقي في طريقها أحد أفراد الطاقم التعليمي الجوال، وهو الذي يقودهم في النهاية الى جنتهم المفقودة (حلبجة) بعد متاعب خطيرة مع نيران الشرطة الحاقدة على جانبي حدود كردستان، الجانب الايراني الذي يتحدر منه المعلم، والجانب العراقي الذي نزح منه اللاجئون.

للافلام قدرة عجيبة على استحضار الخيال وتصويره، ولكن من الواضح ان الواقع في كردستان يكاد يكون اغرب من الخيال في كثير من الاحيان.

ففي الوقت الذي تدعو فيه الحكمة الناس للعودة الى أراضيهم وبيوتهم وأوطانهم، وهذا ما فعلته مجموعة مخملباف المسنة لأنها تعلم انه «لا كرامة لنبي الا في وطنه»، ولان المثل الذي امنوا به دائما كان «رماد بيتي، ولا ذهب الآخرين» نجد ان البحار والمحيطات البعيدة تعج بالسفن المهلهلة التي تحاول ان تعبر بحمولات خفية من اكراد عراقيين شباب دفعوا كل ما ملكت ايديهم ليكونوا لاجئين في بلدان غريبة! اذا كان هذا هو مبدأ الآباء والاجداد، فما بال الابناء يتركون ذهب بلادهم ليطلبوا رماد بيوت الآخرين؟

ما بالهم يعبرون الحدود والحدود والحدود ليصلوا الى آخر الدنيا غير مبالين بما يدفعون من اموال الى مافيا التهريب الدولية الشرهة، ولا بالمخاطر الجسيمة التي تعترض طريق وصولهم الى شواطئ بلدان اللجوء، وهي مخاطر تصل في اوقات كثيرة الى حد الموت غرقا في البحار والمحيطات او اختناقا في شاحنات البضائع، وما حادثة الجنوح المرعبة للسفينة التي حملت اسم «ايست سي» على الشاطئ الفرنسي مؤخرا الا مثال صارخ على عمق الكارثة التي تعصف بالكرد العراقيين، وتدفعهم اما الى الموت، واما الى الاغتراب والتشتت.

ما الذي حدث ويحدث لينقضوا عهد ارضهم واجدادهم وتاريخهم واساطيرهم البطولية التي اكدت حب الارض والتشبث بها والتفاني من اجلها لينسلخوا عنها بالكثافة التي نشهد غير آبهين بترك بلادهم لقمة سائغة للطامعين من كل صوب؟

هل هي «عقدة حلبجة» الكيماوية، والرعب الذي خلقه صدام فيهم طوال فترة حكمه التي جاوزت الثلاثين عاما هو ما دفعهم ويدفعهم اليوم الى الفرار الجماعي؟

في مقابلة اجرتها صحيفة كردية محلية صرح السيد مسعود البرزاني بأنه قال لمساعد وزير الخارجية الامريكي في احد لقاءاته معه بأنه ذاق مرارة اللجوء، وليس مستعدا لتكرار تلك التجربة.

البرزاني الابن كان حكيما في قوله، وفي موقفه، وهو يستذكر قسوة العيش بعيدا عن ارضه وقومه.

لم يلجأ البرزاني وقتها الى المنفى حبا في الانغماس في لذائذ الحياة الصغيرة في بلدان اللجوء الغربية كما يفعل الكثيرون اليوم، بل اضطر اليها اضطرارا بعد المعركة الطاحنة التي قادها والده الملا مصطفى لاجبار حكومة بغداد على تطبيق اتفاق عام 1970 الذي حصل الاكراد العراقيون بموجبه على اعتراف بحقهم في ادارة اقليمهم ذاتيا، تلك المعركة التي كان الاكراد قاب قوسين او ادنى من كسبها لولا اذعان صدام حسين لشروط شاه ايران، وتوقيعه اتفاقية الجزائر عام 1975 مقابل اغلاق ايران حدودها في وجه الحركة الكردية.

النشوة بالنصر استحالت بين ليلة وضحاها الى انهيار مدوي لجأ الزعيم الشيخ على اثرها الى الولايات المتحدة للعلاج من سكاكين الغدر التي ادمت قلبه وروحه، واستسلم من استسلم من مقاتليه للقنوط او لجند صدام حسين، ورحل من رحل مجتازا الحدود قاصدا اللجوء الى البلدان الاوربية في موجة فتحت الطريق امام موجات اخرى اكبر واعظم تلت الانتفاضات وحركات التمرد المسلحة التي لم تتوقف تعبيراعن الرفض المطلق لمصادرة الحقوق والحريات التي كانت نهج النظام الشوفيني في بغداد.

ففي اوائل الثمانينات، وتمهيدا لاعلان الحرب على ايران قام النظام بأوسع وابشع عملية تهجير للأكراد القاطنين في بغداد والمدن العراقية الوسطى والجنوبية بحجة تبعيتهم لايران. وتحت جنح الظلام وضعت الحافلات العراقية عشرات الالوف من العائلات الكردية المذعورة التي جردت من كل ما تملك، ومن اليافعين من اولادها على الحدود الايرانية. وفي حين نصبت ايران على مضض الخيام لايواء العوائل الكردية المهجرة، قام النظام البعثي بتوزيع ابنائهم الذين بلغ عددهم عشرة آلاف شاب على سجونها الرهيبة، ولم يعرف شيئا عن مصيرهم منذ ذلك الوقت.

وفي عام 1988 وبعد وقف اطلاق النار مع ايران مباشرة أطلق صدام العنان لفيالق جيشه المجهزة بأحدث الاسلحة واكثرها فتكا لتدمير كردستان والتنكيل بمواطنيها، وسحق الثورة المسلحة التي خرجت من كبوتها، وصارت تضغط على النظام من جديد للإقرار بحقوق الكرد المشروعة.

«الانفال» كان العنوان البغيض لتلك الحملة الشرسة التي لم يشهد الاكراد لها مثيلا في تاريخهم القديم والحديث.

التدمير الكامل كان مصير اكثر من خمسة آلاف قرية ومدينة لم يسلم منها حتى تلك التي تعود بيوتها للمرتزقة الاكراد الذين انضووا تحت الوية «الجحافل الخفيفة» التي انشأها صدام بشكل خاص لمحاربة الثوار من بني جلدتهم، وشمل التهجير والاسر الافاً مؤلفة من عوائل سيقوا الى جهات مجهولة لم يعثر على اي اثر لهم لاحقا، وبطبيعة الحال انضمت اعداد هائلة اخرى الى الجالىات الكردية التي بدأت بالتضخم في السويد والمانيا ودول اوربا الغربية الاخرى.

وفي عام 1991 واثر الهزيمة المنكرة التي لحقت بصدام وجيشه في الكويت، واشتعال الانتفاضة في مدن العراق الجنوبية، بسط الوطنيون الكرد سيطرتهم الكاملة على مدنهم، واستطاعوا ولأول مرة في تاريخهم الحديث ان يلحقوا مدينة كركوك النفطية باقليمهم المحرر.

عقدة حلبجة «وضراوة مفعول السلاح الكيماوي استخدمها صدام بذكاء لاعادة كركوك الى حضيرة حكمه بعد أن غضت قوات التحالف الطرف عن استعانته بطائرات الهليكوبتر في قمع الانتفاضة الشاملة التي لم تبق تحت ولايته سوى بغداد وثلاث أو أربع محافظات من مجموع الولايات العراقية الـ18.

وقتها، وحسب شهود عيان حلقت الطائرات الحربية العراقية في سماء كركوك ونفثت سحبا كثيفة بيضاء ظنتها القوة الكردية في المدينة غازا كيماويا، فتركت مواقعها، وأخلت المدينة بسرعة الى مواقع في شمال الخط 36.

شهود العيان أكدوا في ما بعد ان السحب الكثيفة التي نفثتها الطائرات العراقية المهاجمة لم تكن سوى أطنان من الدقيق الأبيض والجص، وبأن الفكرة لم تكن الا من بنات أفكار ابن عم الرئيس العراقي علي حسن المجيد الملقب بالكيماوي الذي عين حاكما عسكريا على المدينة بعد استعادتها من الاكراد.

ومن جديد زحفت جحافل الجيش العراقي لاستعادة بقية المدن الكردية، فلم يجد المواطنون الفزعون بداً من الفرار من اسلحة صدام الكيماوية. حينها تابع العالم مآسي تدفق اكثر من مليوني كردي على الحدود التركية والايرانية في ظروف مناخية قاسية جدا، وهو ما هز ضمير المجتمع الدولي، وهلع اوربا الغربية من تسرب اعداد كبيرة منهم الى دولها، الامر الذي دفعهم الى تبني فكرة حمايتهم داخل العراق باقامة منطقة «الملاذ الآمن»، فأعيد الشعب الخائف الى دياره تحت حماية عسكرية صارمة عجز صدام عن مجابهتها، فتقهقرت جحافله الغازية عن المدن الكردية الخاوية. وبعد اشهر اقام الحزبان الرئيسيان في كردستان، الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني والاتحاد الوطني بقيادة جلال الطالباني، حكومة وحدة وطنية بعد انتخابات استبشر بها الكرد واصدقاؤهم رغم ما شابها من تجاوزات.

لم يدم التفاهم على اقتسام السلطة، ولا فرح الاكراد بحكومتهم الوطنية طويلا، اذ انقلب الاتفاق الى اختلاف، فصراع مسلح اوقع الاقليم في دوامة من الاقتتال الاخوي الدامي، وتدخلات اقليمية ودولية خطيرة أتت على امن الناس واطمئنانهم وثقتهم بالمستقبل، مما دفع بالكثيرين الى ترك البلاد ليبدأ نزيف بشري جديد بدأ بالازدياد مؤخرا نتيجة للمخاوف من رفع محتمل للعقوبات عن بغداد، وسحب الحماية التي توفرها الطائرات الامريكية والبريطانية للاقليم.

تعليقا على سني الشقاق والاقتتال، كتب احد الاصدقاء وهو يطلب العون لمغادرة كردستان ذات السلطة الوطنية: «منذ 20 عاما، وانا اعيش كالحمار الوحشي في الجبال، اقاتل القوات الحكومية حينا، واعمل كمعلم للأطفال حينا آخر، وعندما تحررنا واصبحت السلطة بأيدينا استبشرنا، وقلنا سنعيش وننعم بحريتنا، وسيجد اطفالنا الملاذ الآمن، وسنطمئن الى مستقبلهم، واذا بحياتنا تصبح على يد اخوتنا جحيما، واذا بكردستان المحررة تصبح مستنقعا للـ.... والـ....!» من رسالة الاستغاثة هذه، ورسائل اخرى كثيرة نكتشف ان مرارة البقاء في كردستان باتت يعادل مرارة اللجوء (ان لم تفقها) التي تحدث عنها السيد البرزاني للمسؤول الامريكي الرفيع في وقت سابق! وهنا يتسائل المرء: ألم يكن من الواجب ان تنتقل عدوى احساس الزعيم الكردي العميق بالمرارة الذي انعكس لديه الى موقف عنيد برفض مبارحة كردستان تحت اي ظرف الى مواطنيه؟

وهل تحول خطر النزوح من مناطق سلطته الى برنامج عمل له الاولوية في أجندة حكوماته المتتالية؟

ولماذا لم يحاول وغريمه الطالباني تلافي تلك السنوات العجاف من الاقتتال الاخوي الذي ساهم بشكل رئيسي في انهيار ثقة الانسان الكردي بنظامه، وقادته، ونفسه؟

انتفاضة الشعب العراقي بعربه وكرده وتركمانه وقومياته الاخرى عام 1991 كانت استفتاء عمليا مشهودا رفض خلالها الشعب العراقي نظامه التسلطي. واخشى ان تكون هجرة الكرد استفتاء من نوع آخر يؤكد فشل برامج الاحزاب الكردية في توفير الأمن والطمأنينة، واسباب الحياة الحرة الكريمة التي تدعم ثقة المواطن بحكومته، خاصة ان نزاعها الدموي على الانفراد بالسلطة اضعفها واصاب الكثير من خططها التنموية بالشلل.

امتلك اليهود عقيدة، وحفنة من الاساطير، وقناعة صلبة بأن يكون لهم وطن، فاشتروا بما ملكوا من مال ونفوذ وتعاضد وعد المستعمرين بوطن.

لم يؤرقهم سلب وطن يعود لغيرهم، مثلما لم يؤرقهم قتل وتهجير الملايين، والتسبب بحروب وكوارث مدمرة، المهم ان يقفوا على ارض، اي ارض، ليرفعوا عليها راية وجودهم.

لم يعبأوا بالثمن، مالاً كان أو دماً، كما لم يعبأوا بالرفض الذي قوبل به وجودهم الاحتلالي البغيض من المحيط الذي اقتطعوا منه الارض.

فرضوا انفسهم، ولا يزالون، لأنهم ادركوا ان لا مستقبل لهم بدون وطن حصين يدفع عنهم غائلة الزمن، وبأس الاقوياء الطامعين.

فما بال الاكراد لا يقرأون سير الآخرين؟ ما بالهم لا يفكرون بهتلر جديد يطلع على العالمين من الغرب الذي يستجيرون به ويلجأون اليه فرحين مستبشرين ليكشر عن انيابه العنصرية الحاقدة، ويبيد كل الاصول الغريبة عن جنسه، وعن خياله المريض؟

الا يمكن ان يولد هذا الاحتمال الرهيب من رحم الغرب الذي فتح ثغرة في بعض ابوابه للشعوب الملونة القادمة من الجنوب في مخطط لملأ الفراغ الديمغرافي الذي يشكو منه؟

اظن ان على الجميع ان يدرس كل الاحتمالات الغائبة، ويفكر بتبعات ما يفعل اليوم، وبمستحقاته غدا؟