واق الحقيقة.... وواق المخيلة

TT

أبعد نقطة على الكرة الارضية في المخيلة العربية هي جزر واق الواق، ويرتبط بهذه الجزر ـ على ذمة السندباد ـ طائر ضخم يضع بيضته بحجم ثور، ويستطيع ان يحمل الفيل ويطير به الى عنان السماء.

ومغامرنا التراثي الباحث عن الذهب الاصفر قبل ظهور الذهب الاسود استغل هذه الميزة في طائر الرخ، فكان يختبئ في قلب الذبيحة الضخمة فيرميها له الطائر على جزر الزمرد والياقوت والماس، فيغرف ويشيل ويلبد بانتظار عودة الرخ وسيلة المواصلات الوحيدة الى تلك البلاد.

وبلاد واق الواق ليست اسطورية تماما، فهناك اشارات تاريخية لها عند المسعودي في «مروج الذهب» والقزويني في كتابه المشوق «آثار البلاد واخبار العباد»، وهذه الاشارات لا تعني سقوط الاسطورية عنها، فبعض كتب التاريخ العربي «حكاوي قهاوي» وتجميع لقصص عجائز.

وكمثال على هذا التوجه (الإسطاريخي) فإن ابا يحيى زكريا القزويني يحدد موقع واق الواق ويصفها بالتالي:

«... في بحر الصين وتتصل بجزائر زانج والمسير إليها بالنجوم. قالوا انها الف وستمائة جزيرة، وانما سميت بهذا الاسم لأن بها شجرة لها ثمر على صور نساء معلقات في الشجرة بشعورهن، واذا ادركت ـ بلغت ـ يسمع منها صوت، واهل تلك البلاد يفهمون من هذا الصوت شيئا يتطيرون منه».

وهذه الظاهرة الواق واقية ثقافة شرقية عتيدة ومخففة، فالتطير من النساء عند العرب وجيرانهم كان يبدأ من المهد ولا ينتظر البلوغ لانهم يعرفون قبل ان تخبرهم فاطمة المرنيسي انهم ليسوا محصنين ضد النساء.

اما التحليل التاريخي المقنع لوجود جزر واق الواق وأصل تسميتها، فتجده عند الكاتب ريتشارد هول في سفره الضخم «امبراطوريات الرياح الموسمية» الذي ترجمه وحققه في ثمانمائة صفحة تقريبا زميلنا النشط جدا كامل يوسف حسين الذي اثرى المكتبة العربية بالعديد من كتب الفكر الصيني والهندي والحكمة الشرقية في عصر انجرفت فيه الاغلبية نحو الفكر الغربي.

ويعتقد هول ان اسم واق الواق قد يكون مجرد تقليد ساخر من اعدائهم لاصوات الواق الواقيين او ربما يكون قد اتى من اسم (واكا) وهو نوع من القوارب الاندونيسية ممتدة اكثر من القوارب العادية لتحفظ التوازن في اعالي البحار.

والاحتمال الثاني اقرب الى الحقيقة خصوصا حين نعرف ان اهل واق الواق هاجروا من بعض الجزر الاندونيسية وكان قصدهم ان يستقروا على السواحل الشرقية لافريقيا، لكن عداوة السكان المحليين دفعتهم ثانية للهجرة باتجاه مدغشقر.

أما اسطورة طائر الرخ فقد تكون بدايتها الحقيقية من الطائر الذي يطلقون عليه اسم ايبيورنيس ماكسيموس وهو طائر يبلغ ارتفاعه اكثر من عشرة اقدام ويضع بيضة ضخمة كتلك التي يتحدث عنها البحارة العرب في كتب الملاحة والتواريخ، وقصص الف ليلة وليلة، وسيف بن ذي يزن.

ويرجح ريتشارد هول ان تكون اللغة الواق واقية المتحدرة من لغة جاوة القديمة قد اندثرت بعد ان تركت بعض مفرداتها في جزر المالديف التي يطلق عليها العرب (ذيبة المهل) وبعض المدن الساحلية في افريقيا وفي جزر سيشل وموريشيوس، وهي شبيهة الى حد كبير بلغة شعب الباتاك الذي يقيم في شمال سومطرة.

والإشكال التاريخي امام تحليلات هول يأتي من المؤرخ الاندلسي ابن سعيد الذي عمل مع هولاكو في القرن الثالث عشر الميلادي ونص على ان شعب واق الواق هو ذاته شعب الخمير الذي يسكن كمبوديا، وهذه رواية منفردة لم نسمعها من احد قبله، ولا بعده.

وانى تكن الاعتراضات، فإن واق الواق حقيقة جغرافية وتاريخية وليست اسطورة من نسج المخيلة، وقد ظهرت على مسرح الاحداث ثم اختفت كاختفاء شعوب كثيرة مسالمة لم يكن فيها ما يكفي من الشر والعدوانية للحفاظ على كيانها، فذابت في الكيانات المجاورة، ومن اصر على التمسك باصوله منها اعتلى رؤوس الجبال ليرنو الى بحر بعيد، ويحكي للاحفاد في ليالي السهاد المديدة عن اجداد دوخوا الدنيا قبل ان يلقوا أسلحتهم، ويدوخوا ويتحولوا الى طيف في ممالك المخيلة الانسانية.