العرب أمام منعطف تاريخي خطير

TT

بعد أن ألقى رئيس الوزراء الأسرائيلي إرييل شارون عصا الترحال واستراح من وعثاء السفر إلى الولايات المتحدة أصبح من الضروري التحدث عن هذه الرحلة ليس من باب الفشل والنجاح وما إذا كان أقنع الأميركيين أم هم الذين أقنعوه بل من باب العقلية التي ذهب بها هذا الرجل، الذي يمثل دولة صغيرة، إلى الدولة الأعظم والقطب العالمي الكبير.

ذهب شارون إلى الولايات المتحدة وفي ذهنه أنه ذاهب لدولة تابعة لإسرائيل وليست إسرائيل تابعة لها وأن ما سيقوله يجب أن يستقبله جورج بوش وطاقم إدارته كأوامر لا بد من تنفيذها وأن الأسرائيليين يعرفون المصلحة الأميركية أكثر من الأميركيين أنفسهم بل إن المصلحة الاسرائيلية يجب أن تكون هي المصلحة الأميركية ولا مصلحة غيرها.

حمل شارون معه أوامر وطرحها على بوش وطاقمه الإداري على أساس التنفيذ الفوري أو على الأقل «نفِّذْ ثم ناقش» وليس من قبيل تبادل وجهات النظر والأخذ والعطاء. ويمكن حصر هذه الأوامر الزجرية بالنقاط الست التالية:

* عرفات إرهابي وعلى واشنطن أن لا توجه إليه الدعوة ولا أن تستقبله حتى يتوقف عن ممارسة الإرهاب!!

* سوريا تدعم حزب اللّه اللبناني ويجب إبقاؤها على قائمة الإرهاب وفرض عقوبات عليها.

* إيران تعزز قدراتها العسكرية ويجب إيقاف التعاون بينها وبين روسيا في هذا المجال.

* العراق مستمر في إنتاج أسلحة الدمار الشامل وهذا يشكل تهديداً للولايات المتحدة وإسرائيل ولدول المنطقة ولذلك لا بد من إعطاء هذه المسألة الأولوية على حساب عملية السلام في الشرق الأوسط.

* المحيط العربي «بسبب العنف الفلسطيني»!! أصبح معادياً لأميركا وإسرائيل ويجب التعاون للرد على ذلك قبل ان تتفاقم الأمور وتخرج عن السيطرة.

* مصر تقوم بدور سلبي في المنطقة ويجب وقف المساعدات الأميركية إليها، كما يجب ممارسة ضغط جدي عليها لوقف تطوير قدراتها العسكرية.

وبالطبع فقد طالب شارون بالمحافظة على تفوق إسرائيل العسكري والتقني في المنطقة وتحدث بطريقة وكأن الحرب الباردة لا تزال محتدمة وكأن إسرائيل لا تزال الخندق المتقدم والمخفر الأمامي لمواجهة الزحف الشيوعي نحو هذه المنطقة الحساسة وكأن حرب الخليج الثانية لم تثبت أن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تحفظها المواقف الأميركية المتوازنة والتنسيق مع الدول العربية التي غدت بمعظمها دولاً معتدلة غير معادية للغرب خلافاً لما كان عليه الوضع قبل انهيار الاتحاد السوفياتي قبل نحو عشرة أعوام.

هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلى قطينا بهذه الطريقة وهذا الأسلوب ذهب شارون إلى الولايات المتحدة وخاطب الرئيس الأميركي جورج بوش وطاقم إدارته، ولقد حرص على إظهار أن أميركا هي التي بحاجة إلى اسرائيل وليس أن اسرائيل هي التي بحاجة إلى أميركا، كما حرص على إظهار عداء مستحكم للعرب بما في ذلك الدول التي أبرمت معاهدات سلام مع الدولة العبرية والدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع هذه الدولة باشكال مختلفة ونسب متفاوتة.

وإزاء هذه العنجهية التي ذهب بها شارون إلى الولايات المتحدة والطريقة المتعالية التي خاطب بها كبار المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم جورج بوش، فإن كل ما رشح من معلومات غير مؤكدة لا يشير إلى أن واشنطن لم توافق رئيس الوزراء على كل ما قاله وأنها لم تبد الاستعداد الكافي لتلبية ما طلبه بل إنها أبدت حماساً كبيراً لأن تكون الأولوية لمعالجة الشأن العراقي على حساب عملية السلام في الشرق الأوسط وأن مخالفتها لوجهة النظر الإسرائيلية القائلة إن الفلسطينيين وحدهم يقفون وراء التصعيد الحالي وإن عرفات نفسه هو الذي يقود «الإرهاب»!! في الضفة الغربية وغزة جاءت خافتة وخجولة وغير واضحة وغير صريحة.

لم يطلب بوش من شارون ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات بدون شروط مسبقة ولم يتحدث معه على اعتبار أن الولايات المتحدة هي الراعي لعملية السلام منذ مؤتمر مدريد العتيد وحتى خروج بيل كلينتون من البيت الأبيض، وإن هو طلب منه بطريقة استعطافية وأسلوب الرجاء أن يخفف الضغط الاقتصادي على الفلسطينيين لأسباب إنسانية.

قد يُقال هنا إن الإدارة الأميركية الجديدة تريد في هذه المرحلة الاستماع من جميع الأطراف وأن موقفها النهائي الذي سيتبلور في هيئة مبادرة متكاملة سيكون بعد زيارة العاهل الأردني الملك عبد اللّه وزيارة الرئيس المصري حسني مبارك في بدايات شهر أبريل (نيسان) المقبل إلى واشنطن وربما بعد زيارة مماثلة يقوم بها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى العاصمة الأميركية مع أنه لم يتلق دعوة حتى الآن للقيام بمثل هذه الزيارة.

وقد يقال أيضاً ان الولايات المتحدة أحجمت عن كشف النقاب عن كل ما أبلغت شارون به لأنها لا تريد تشجيع العرب على اتخاذ مواقف أكثر تطرفاً في قمة عمان المقبلة حيث يسود انطباع بأن السفارات الأميركية في المنطقة بقيت منشغلة ومنذ مطلع هذا الشهر في أن لا تذهب هذه القمة حتى حدود إلزام الدول التي أبرمت معاهدات سلام مع اسرائيل وأقامت علاقات دبلوماسية معها، بانهاء هذه المعاهدات وقطع هذه العلاقات.

وهنا وإذا أخذنا بهذين التقديرين فإننا سنفهم لماذا ردد الأميركيون خلال استقبالاتهم لشارون ومفاوضاتهم معه أن الولايات المتحدة ستساعد على أن يعود الاسرائيليون والفلسطينيون إلى المفاوضات وأن يتوصلوا إلى سلام لكنها لا يمكن أن تفرض مثل هذا السلام، كما أنها لا يمكن أن تُغرق نفسها في التفصيلات اليومية كما فعلت الإدارة الأميركية السابقة.

إن هذه مجرد تقديرات وتصورات في حين أن الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة تتقصد أن تبدو غير مبالية بالنسبة للوضع المتفجر في فلسطين، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتتقصد أن تؤكد على أن التزامات الولايات المتحدة تجاه إسرائيل ستبقى متينة كالسابق ولذلك رأينا كيف أن الرئيس جورج بوش أقحم موضوع القدس إقحاماً في خطابه أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية ـ الاسرائيلية (إيباك) في مؤتمرها الأخير في واشنطن الذي كرسته لترسيخ اليقين بوجود قواسم واهداف مشتركة بين إسرائيل وأميركا تستند إلى «القيم الأخلاقية والديموقراطية والمصالح المشتركة بين البلدين»!! في هذا المؤتمر الذي شارك شارون في جزء من أعماله، وألقى أمامه خطاباً نارياً على غرار خطاباته عندما قاد الجيش الإسرائيلي لغزو لبنان في عام 1982 كرر فيه ثوابت قوى اليمين الإسرائيلي وفي مقدمتها: «أن القدس الموحدة وقلبها جبل الهيكل ستبقى عاصمة إسرائيل للأبد»، ناقشت «إيباك» جدول أعمال كرسته لضرورة استمرار الالتزام الأميركي بتفوق إسرائيل وتعزيز التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والدولة العبرية.

وركزت «إيباك» على أنه على الولايات المتحدة أن تتخذ مواقف حازمة لاحتواء العراق ومنعه من إعادة بناء قدراته العسكرية وأن عليها أن لا يشوب سياستها أيّ تراخ تجاه إيران، وأن عليها أيضاً أن تحول دون أن يتخذ مجلس الأمن أية قرارات معادية لإسرائيل.

إن كل هذه الأمور سيواجهها الزعماء العرب الذين سيعقدون قمتهم الدورية ال"ُت? في عمان غداً وان عليهم، وهم يبحثون عن مخرج لاختلافات وجهات نظرهم حول «الحالة العراقية ـ الكويتية» وحول الموقف من العلاقات مع اسرائيل في عهد شارون، ان يضعوا في اعتبارهم أنهم اذا لم يتفقوا، ولو على الحد الأدنى، فإن إسرائيل ستزداد صلفاً وتعنتاً وأن الولايات المتحدة ستزداد خضوعاً للشروط الاسرائيلية وأن المستقبل العربي سيكون مرهوناً لتواطؤ أميركا مع تيار اليمين في الدولة العبرية.

بالإمكان الاتفاق على حل وسط بالنسبة لـ «الحالة العراقية ـ الكويتية» فهذه مسألة ثانوية ويقيناً أن الذين يصرون على أولويتها يلتقون مع كل ما قاله شارون للمسؤولين الأميركيين خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن وإن بصورة غير مقصودة، ويلتقون أيضاً مع توجهات الادارة الأميركية الجديدة وان هم انطلقوا من مواقف مغايرة.

وبالإمكان الاتفاق وبشكل مطلق على اكثر من الحل الوسط بالنسبة للقضية الفلسطينية، فالأمر هنا واضح وضوحاً كاملاً وبائن بينونة كبرى، فالمطلوب هو تنفيذ ما قررته القمة الطارئة التي انعقدت في القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إن لجهة دعم كفاح الشعب الفلسطيني وإن لجهة العلاقات التطبيعية والدبلوماسية مع اسرائيل.

سيتوجه الملك عبد اللّه الثاني بعد أيام إلى واشنطن وستتبع هذه الزيارة زيارة سيقوم بها الرئيس حسني مبارك إلى العاصمة الأميركية وستكون هناك في هذه الفترة ذاتها اتصالات عربية ـ أميركية على مستويات عليا ومهمة جداً، وكل هذا بهدف بلورة سياسة من المفترض أن يتخذ العرب في ضوئها، وبتوصية من هذه القمة، قراراً حازماً تجاه إسرائيل في عهد شارون يصل إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية ووقف أية اتصالات مع هذه الحكومة التي بات واضحاً أنها لا تريد السلام وأنها تسعى للتفاهم مع الإدارة الأميركية الجديدة على تغيير أولويات الصراع في المنطقة.

إذا كان السلام هو هذا الذي حمله شارون معه إلى واشنطن في زيارته الأخيرة فليذهب هذا السلام إلى الجحيم، وإذا بقيت الولايات المتحدة متمسكة بهذا الفتور ومتناغمة على هذا النحو مع طروحات ومفاهيم اليمين الاسرائيلي فلتذهب مصالحها في المنطقة إلى الجحيم، والعرب الآن في هذه القمة وبعدها أصبحوا أمام منعطف تاريخي خطير فإما أن يثبتوا وجودهم على خريطة التكتلات الدولية في هذا القرن الجديد وإلا فإننا أمام مائة عام من الهوان والذل والاستلاب.