وطن سوق الهرج

TT

من الاماكن التاريخية المعروفة في بغداد سوق الهرج، وهو ما يسمونه في منطقة الخليج بسوق الحراج. يعرف البغداديون سوق الهرج اكثر مما يعرفون مجلس الوزراء او المجلس الوطني. فهو ملاذهم، يبيعون فيه ملابسهم واحذيتهم عندما يفلسون ويشترون منه لوازمهم عندما يغتنون.

وبما يترتب على ذلك من ازدحام، انتشرت فيه عمليات النشل التي وصلت درجة عالية من الحذق والمهارة. وكان لهم رئيسهم الذي يعتد ويعتز بمهارته. تحداه يوما مختار المحلة في هذا الشأن. قال له إن العيب عيب الجمهور المغفلين. فلو انهم راقبوا جيوبهم بحرص لما استطاع النشالون سرقتهم. ليثبت ذلك لرئيس النشالين وضع كمية من النقود في جيبه ودخل السوق يتمشى فيه لساعتين من الزمن ليرى ان كانوا سيستطيعون سرقتها منه. ولكنه زيادة في الاحتياط ولئلا يفقد فلوسه فعلا، وضع في جيبه بارات عثمانية ساقطة.

دخل السوق وتجول فيه ثم خرج وفتش جيوبه فوجد كامل نقوده كما هي. قال لرئيس النشالين، ها هي نقودي كاملة لم يستطع أحد سرقتها. رد عليه كبير النشالين قائلا، يا مغفل. لقد اخذوها من جيبك خمس مرات ووجدوها بارات ساقطة فأعادوها الى جيبك.

بالنظر للنجاح المذهل الذي تمتع به اؤلئك النشالون، كان لا بد للسلطات ان تشاركهم فيه. هكذا اعتادت الشرطة على مقاسمة النشالين فيما يحصلون عليه. حدث ان توفق احدهم بنشل محفظة احد زبائن السوق. راح صاحب المحفظة يصرخ ويستغيث، «يا ناس، امسكوه! حرامي! نشل جزداني وفيه عشرة دنانير. يا اولاد الحلال! يا من شاف جزدان فيه عشرة دنانير».

كان النشال خلال ذلك قد اختلى في زاوية من السوق وفتح المحفظة فلم يجد فيها غير ثلاثة دنانير. اعادها الى المحفظة ثم تسلل راجعا وبحث عن الرجل صاحبها. حتى اذا وجده سلمه اياها وعيره قائلا: «يا رجل عيب عليك تكذب! هذا اثم الله راح يحاسبك عليه. تقول عشرة دنانير وليس فيها غير ثلاثة».

انصرف النشال لاستئناف عمله مع زبائن آخرين صادقين. ولكن الشرطي الموكل بسوق الهرج، لاحظ ما جرى، فاقترب منه وقال: «اسمع هنا! انت مجنون! ليش رجعت الجزدان لصاحبه؟!

اجابه النشال قائلا: «يا حضرة العريف. هذا الرجل يقول عشرة دنانير. والجزدان ليس فيه غير ثلاثة. في آخر النهار انت تحاسبني على عشرة وانا ما قابض غير ثلاثة. اكون خسران بهذي الشغلة. تريد مني حصتك بالنص خمسة دنانير والجزدان ما فيه غير ثلاثة. ارجعه لصاحبه واخلص نفسي احسن».

والآن ما الذي حدا بي الى الدخول في موضوع النشل في سوق الهرج؟ انه ما اصبحت اسمعه باستمرار في هذه الآونة عن تفشي السرقات بين المسؤولين وغير المسؤولين. ما يفعلونه هو جزء من تراث سوق الهرج بكل ما ساد فيه من نشل ومزايدات ومناقصات ومساومات. سوق الهرج رمز الوطن.