صورة طبق الأصل

TT

حدثني قريبي فقال :« في سنة من السنين ـ وفي يوم من اليوميات، في مطار أميركي، وفي رحلة عبور مؤقت بين مطارين، وجدت نفسي أمشي كيلومترات وأجرجر معي طفلي الصغيرين لانه ليس من المناسب تركهما لوحدهم مع زوجة لا تتقن الانجليزية، بحثا عن منطقة تسمح بتدخين سيجارة، هذا المشهد اصابني باحتقار عميق لذاتي، وارادتي الرخوة التي استعبدتها رغبة متسلطة، أذلتني وأفقدتني حتى ابوتي، فجعلتني اسحب أطفالي وزوجتي كل هذه المسافة الطويلة، لادخن سيجارة، ومن يومها قررت ترك التدخين، ظل ذلك المشهد في ذاكرتي رادعا لي كلما عنّت على بالي العودة للتدخين مجددا».

وأذكر مرة أننا في رحلة عائلية طويلة ومتعبة، توقفنا في احد المطارات لنأخذ طائرة أخرى، لنكتشف أن طائرتنا الاخرى قد أقلعت دوننا، فقررنا أن نلتف على الموقف لنناقش كيفية الخروج منه، لنسمع شهقة واسعة من قريبنا الذي كنا نعتمد على خبرته كثيرا للخروج من هذه المشكلة ففرحنا ظنا انه عثر على الحل، إلا أننا شاهدناه يركض باتجاه كنزه الثمين، فقد وجد أخيرا حجرة زجاجية يشاهد الخارج من بداخلها، وهم ينفخون سجائرهم في غرفة تكشف لكل مدمن كم هو منبوذ والكل يتفرج على صورته المهينة. جيل هؤلاء الشباب الذين تورطوا بالتدخين، بسبب قلة التوعية، وحين كانت صور الأدمان في الافلام الأميركية والمصرية تأتي في صورة شاب وسيم تعشقه الفتيات أو فارس لا يشق به غبار، لم يخل يوما من دفاعات قمعية تشبه الاقتراح الذي تقدم بها اليوم المشرف على برنامج مكافحة التدخين بوزارة الصحة الدكتور عبد الله البداح، والذي يحث على إدراج شرط عدم التدخين ضمن الشروط الأساسية في القبول لجميع فئات التعليم الجامعي والكليات بما فيها العسكرية، معتبراً أن أكثر من 30 % من خريجي المرحلة الثانوية مدخنون، حيث يضطرهم هذا الشرط ليس فقط لسهر الليالي والمذاكرة الحثيثة، بل والإقلاع عن التدخين خلال مرحلتي التسجيل والقبول. ذاك الجيل كان يحظى بآباء يطردون أبناءهم ويوجعونهم ضربا، في حال اشتمامهم خبرا أو رائحة لتعلق ابنهم في عادة التدخين السيئة، ورغم هذا لم تفلح تهديداتهم بمنع الشباب من التورط بعادة التدخين السيئة. كما افلحت مواجهة جادة مع الذات ـ مثل تلك التي حدثنا بها قريبي ـ وسبر غور معرفة حقيقة تجعلهم يفكرون بالاقلاع والبحث عن مساعدة.

التوعية المبكرة بالمخاطر، والتحبيب بالعادات السليمة وحث الفرد على التصدي العاقل لمسؤلياته اتجاه نفسه وتجاه قضايا البيئة، والصحة، وربطها بعلامات الخير والقيم الإيجابية، وتقدم البشرية، هي من أهم البرامج الوقائية المحببة للناس الذين يتوقون لأن يحترم الآخرون استقلاليتهم وعقولهم وارادتهم، خصوصا قبل وقوع الفأس في الرأس.

إن مواجهة الذات وترك مساحة معتدلة يختبرها العقل، وتتمرن فيها الارادة، وينتصر فيها العقل المستقل بقرار شخصي، أفضل بكثير من قوانين وفرمانات المنع والحجب وممارسة الوصاية على عقول الناس. وليس الخوف اليوم من اقتراح مثل وضع شرط ألا تكون مدخنا شرطا للقبول في المؤسسات التعليمية والمهنية، إلا لأنه قد يشجع على اقتراحات مغالية تحدد لك طول ثوبك، وطول لحيتك، وطول لسانك، وكيف تفكر، وكيف تأكل، ليغدو البشر العقلاء مجرد صورة لنيجاتيف بالأبيض والاسود تعتمد عليها مؤسسات المجتمع كشرط في استراتيجية التنمية، ويصبح شعار المجتمع لقبول أفراده في الحياة (اطبع) صورة طبق الأصل.

[email protected]