هل تفتح البوابة العراقية صراع الهويات عربيا؟

TT

في الحديث الدائر هذه الأيام عن الأوضاع العراقية المأساوية، يكـاد ينعقـد الاجماع بيـن المحللين على تصنيف تركيبة المجتمع العراقي وقواه السياسية إلى ثلاثة مكونات كبرى متمايزة هي الشيعة والأكراد والسنة.

ويشكل هذا التصنيف خلفية المعادلة السياسية العراقية الحالية، بحيث انه يبدو تصنيفا بديهيا، تدل عليه الوقائع العينية الملموسة.

من هذا المنظور إذن يمكن القول ان الصراع الداخلي المحتدم راهنا في العراق هو صراع حول الهوية ببعديها القومي والديني، وليست الحالة العراقية بالاستثنائية أو الفريدة في الساحة العراقية، وإن كانت بلغت الحد الأقصى في التأزم والحدة.

فمعضلة الهوية مطروحة ـ وفق هذا المنظور دوما ـ بالنسبة لأغلب البلدان العربية باعتبارها بلدانا متنوعة التركيبة الديمغرافية عرقيا وثقافيا.

ففضلا عن الحالة السودانية ذات الخصوصية الجلية، نظر البعض خطأ إلى الفتنة الأهلية التي اندلعت في الجزائر في التسعينات بصفتها أزمة قومية في بلد يقوم فيه صراع عربي ـ بربري خافت تارة وعلني تارة أخرى حول الهوية.

واعتبرت المعادلة ذاتها في قائمة المغرب وإن كانت أقل حدة، باعتبار أن مطالب الاتجاهات القومية البربرية لا تتجاوز عادة الحيز الثقافي.

ونلمس القراءة ذاتها للوضع الموريتاني الذي يشبه عادة خطأ بالوضع السوداني حيث «الجنوب الأسود» في مقابل «الشمال العربي» وقد كثر الحديث عن الصراع العرقي في موريتانيا خلال نهاية الثمانينات، في أوج الأزمة السنغالية ـ الموريتانية وذيولها الداخلية.

ولا تخلو البلدان المشرقية ذات التركيبة القومية والطائفية المتنوعة من هذه التصنيفات الرائجة، سواء تعلق الأمر بسوريا أو مصر أو الأردن أو اليمن (أما الحالة اللبنانية فلا تحتاج للذكر).

والمعروف أن موضوع الهوية والأقليات قد اصبح أحد الأجندة الثابتة في اهتمامات المجتمع المدني العالمي ووكلائه الإقليميين، ومن أبرز هؤلاء الوكلاء مركز ابن خلدون للدراسات في القاهرة الذي يشرف عليه عالم الاجتماع السياسي سعد الدين إبراهيم، وقد جر عليه هذا الاهتمام محنته الشهيرة.

بيد أن هذه المقاربة التصنيفية التي تبدو رصينة وموضوعية، تعاني من خلل منهجي جوهري يتعلق بمفهوم الهوية ذاته، الذي ننسى دوما أنه ليس بالمفهوم الطبيعي المباشر، بل هو تصور مبني وحصيلة صياغة أيديولوجية قد لا تكون واعية، وبذا يؤدي دورا عمليا في دينامية الصراع السياسي ـ المجتمعي.

وكما بين عالم الاجتماع الفرنسي المعروف بيار بورديو فإن عملية التصنيف في العلوم الإنسانية هي في حقيقتها آلية إجرائية وممارسة اجتماعية رهانها التحكم في الوعي والمعرفة، وبذا فإن صراع التصنيفات هو في الواقع صراع أصناف ومواقع.

فالتحليل التاريخي والانتربولوجي المعمق يبين بوضوح أن التصنيفات البديهية الرائجة تخفي أكثر مما تبدي، وليست سوى أقنعة زائفة لنسق اجتماعي معقد، يتمنع على النماذج التبسيطية التي تنحصر نجاعتها في الحقل الأيديولوجي.

وبالرجوع إلى الحالات العينية التي ذكرنا تتضح هذه الحقيقة. فبخصوص العراق مثلا، تتعين الإشارة إلى أن التقسيمات المذكورة التي يكثر تداولها حاليا وإن كانت في ظاهرها بادية للعيان، إلا أنها في بعض جوانبها الموضوعية صياغات أيديولوجية وآليات إجرائية في صراع متعدد الخلفيات والجوانب لا يمكن اختزاله في الثنائية القومية العربية ـ الكردية أو الثنائية الطائفية الشيعية ـ السنية.

ففضلا عن كون الهوية السنية تستوعب أغلب عناصر القومية الكردية، فإن الشيعة يشكلون العمق العربي للعراق، وقد انحدرت جل القيادات القومية العربية من صفوفهم، ومن الخلف والخطأ ربطهم بولاءات عقدية أو قومية بإيران.

ومن الأمور الدالة أن الهويات الطائفية لم تنفجر في العراق إلا بعد انهيار النظام البعثي، في مرحلة تقوضت أركان الدولة المركزية وحل الجيش، وانهارت التشكيلات السياسية الإدماجية بأثر مضاعف من قمع الحكم السابق وأخطاء إدارة الاحتلال التي شجعت المعادلة القومية ـ الطائفية.

ولا شك أن التحليل المتأني الرصين للمعادلة الشيعية الحالية في العراق يبين أنها ليست تجسيدا لهوية طبيعية مباشرة، بل هي في الواقع نتاج دنياميكية ظرفية التقت فيها أطراف ثلاثة متمايزة أشد التمايز هي: مؤسسة المرجعية التقليدية التي تستنكف عادة عن العمل السياسي وينحصر اهتمامها في الجانب الشعائري والتعليمي، والأحزاب والتنظيمات «الأصولية» التي تتبنى التصورات الثورية القريبة من أطروحة ولاية الفقيه الخمينية (لقد عارضتها حوزة النجف الأشرف دوما كما هو معروف)، والزعامات العلمانية الليبرالية ذات الولاء الأميركي التي لا يشكل الانتماء الشيعي بالنسبة لها أكثر من ورقة سياسية (كما هو شأن إياد علاوي أو أحمد جلبي). فائتلاف هذه الأطراف الثلاثة المتنافرة من حيث الهوية الفكرية والسياسية هو الذي ولد «الهوية الشيعية» بمفهومها الراهن، وهي كما هو واضح هوية مبنية وليست بديهية وطبيعية بذاتها.

وكذلك الشأن بالنسبة للمكون السني الذي يتشكل في الغالب من العائلات المدينية التي لا تستشعر أي انتماء طائفي، أو من العشائر المختلطة التي تتوزع إلى سنة وشيعة دون التباس في الهوية، حتى ولو كان لا بد من الإقرار أن واقع الاحتلال قد شجع تشكل هوية سنية هي نتاج هاجس الخوف من التهميش والإقصاء، وقد وجدت بعض التنظيمات والشخصيات التي وظفت هذا الهاجس واستفادت منه.

فما يكثر الحديث عنه في الإعلام الغربي إذن من صراع سني ـ شيعي ليس سوى قناع لصراع مواقع وأطراف متنوعة يتلبس لبوس الانتماءات الطائفية التي تبدو محدودة في إطار نظام ولاءات وانتماءات معقد، في مجتمع من أكثر المجتمعات العربية تحديثا وانفتاحا وتعلما.

صحيح أن النظام البعثي الاستبدادي قد قوض سياسيا واقتصاديا البورجوازية المدينية التي قادت عملية التحديث الاجتماعي، كما قوض الأحزاب السياسية الإدماجية التي أضعفت الانتماءات الطائفية كما هو شأن الحزب الشيوعي العراقي أو حتى حزب البعث نفسه في نسخته الأولى قبل أن تستولى عليه العشيرة الضيقة، إلا أن الوضع الانقسامي الجديد الذي يراد له أن يكرس دستوريا لا يمكن النظر إليه بصفته حلا ديمقراطيا لأزمة الهوية العراقية، بل هو مجرد تعبير ظرفي عن صراع سياسي واستراتيجي بقناع طائفي وقومي زائف.