السودان: الإرهاب المسيحي أكبر مهدد للسلام

TT

في احدث تصريح للرئيس اليوغندي موسفني في الاول من هذا الشهر طلب من الرئيس السوداني السماح للقوات اليوغندية بمطاردة زعيم متمردي جيش الرب القسيس جوزيف كوني خلف الخط الاحمر داخل الاراضي السودانية، وقال: اعتدنا ان نحارب كوني بقوة واحدة تحارب مشيا على الاقدام، ولكننا الآن نمتلك قوات متعددة لمحاربة كوني. واذا اعطاني الرئيس البشير الاذن لملاحقة كوني وراء الخط الاحمر فسيكلفني ذلك ثلاثين دقيقة فقط للقضاء على كوني وقواته. وشدد موسفني رفضه لأي تفاهم مع جيش الرب وكرر: ان موقفنا حول كوني لم يتغير ابدا، فقد حاربنا امين وابوتو وسحقناهم وسنأخذ بكوني وسيدفع ثمن كل جرائمه.

في البداية من المناسب تقديم استعراض موجز عن ما هو جيش الرب؟ لقد نشأ قبل عشرين عاما في شمال يوغندة بمبادرة من سيدة يوغندية مسيحية ادعت النبوة وبعد وفاتها ادعى القس كوني: ان الروح القدس قد انتقلت اليه، وكلاهما ينتميان الى قبيلة الاشولي المتداخلة بين الجنوب السوداني والشمال اليوغندي. وتقوم عقيدة الحرب على كونها أمرا ربانيا لا نهاية للحرب إلا بسقوط حكم موسفني او فناء قبيلة الاشولي بأكملها.

وعلى الجانب الآخر يعتقد الرئيس اليوغندي كما بدا من تصريحاته انه سيسحقهم كما سحق من قبل ايدي امين وابوتو. ومعلوم ان اللائحة الأميركية للارهاب تضم هذا الجيش في قائمتها، وهو كما تشير الاحصاءات، انه يضم مائتي الف مقاتل وان الخسائر التي الحقها بيوغندة تتجاوز الثمانين مليار دولار. وبالرغم من انه استمر يقاتل الجيش اليوغندي نحو عشرين عاما ها هو الرئيس اليوغندي يزعم ان السودان لو سمح له بتجاوز الخطوط الحمر فإن القضاء عليه سيكلفه نصف ساعة فقط!

لا أحد يصدق هذا الزعم، والارجح ان الرئيس اليوغندي يريد توريط السودان في حرب لا نهاية لها، وخاصة في الجنوب الذي لم تستقر احواله بعد ويتطلع الى بناء ما دمرته الحرب. لكن موسفني يريد من الحركة الشعبية التي ساعدها في حربها ان ترد له الجميل فتحارب معه جيش الرب عبر سلطة وجيش حكومة الجنوب، وكذلك يريد من حكومة الخرطوم التي أذنت لجيشه من قبل ان يتعقبه داخل الاراضي السودانية ان تتمدد المساحات المسموح لجيشه بدخولها لتشمل المدن، بينما السماح في المبتدأ لجيشه لدخول الاراضي السودانية كان أمرا شاذا لا يتماشى مع الاعراف الدولية!

ترى ماذا كانت ردة فعل الحكومة السودانية ازاء الالحاح اليوغندي؟.. قبيل رحيل جون قرنق، وبعد توليه منصبه الرئاسي قال: ان مسألة جيش الرب واحدة من اولويات حكومة الجنوب. لكن خلفه سلفا كير وضع ثلاثة خيارات امام جيش الرب. الخيار الاول يدعوه للوصول الى سلام مع يوغندة. والثاني ان يخرج جيش الرب من الجنوب ليبحث له عن مكان آخر، والثالث هو ان تتولى الحركة اخراج جيش الرب من الجنوب بالقوة.

ولو عدنا ننظر في واقعية هذه الخيارات منظور ما هو متاح، فخيار التفاوض السلمي مرفوض من الجانبين كما تبين تصريحات موسفني من جهة والعقيدة الدينية من جانب جيش الرب. والخروج من السودان مستحيل، لأن قبيلة الاشولي مشتركة بين البلدين وهي الدعامة الرئيسية لجيش الرب، ويبقى الخيار الثالث اشعال الحرب من جانب جيش الحركة او جيش الجنوب لاخراجه، وهو لا يمثل الطامة الكبرى لسلام وتنمية جنوب السودان انما يهدد سلام واستقرار السودان كله، ولن يقف الامر عند استنزاف موارد الجنوب او السودان كله وانما سيؤدي اشتعال الحرب الى ان يمتنع المانحون من تقديم ما وعدوا به من عون لاعمار ما دمرته الحرب، وفوق ذلك كله فإن التوافق الهش بين قبائل جنوب السودان سيتحول الى حروب اهلية بين تلك القبائل! اذن فهذا الخيار لا يزيد الامور إلا تعقيدا ولا ينبغي ان يكون مطروحا بالمرة.

ويبقى خيار التفاوض السلمي هو الوحيد الذي يمكن ان يفضي الى الحل ولا خيار غيره وعلى النظام الاوغندي ان يتخلى عن وهم السحق الذي يتخيله لجيش الرب وهو يقاتله منذ عقدين من الزمان وقد تمدد في مناطق كثيرة في يوغندة واصبحت هناك عوامل كثيرة تساعده في الشمال اليوغندي اهمها ازدياد حالة الفقر وغياب السلطة وبطش جيشها!

اما المجتمع الدولي، وخاصة الكنسي فعليه ان يسعى للتفاهم مع جيش الرب لاقناعه بخيار التفاوض السلمي مع الزام موسفني بتهدئة الاوضاع والكف عن حملات جيشه التي يريد ان يكثفها باشراك جيشي الحكومة السودانية والحركة الشعبية.

ولعل اهم دور يمكن ان تلعبه حكومة السودان المركزية وحكومة الجنوب هو التأكد من عدم وصول اية معونات او امدادات لجيش الرب، وفوق ذلك اجراء حوارات مع سلاطين وقيادات قبيلة الاشولي لتجفيف منابع الارهاب الديني المسيحي الذي اتسعت قاعدته وتفشت الى هذه الدرجة الخطيرة، لأن التفاهم القبلي هو المنطلق الاساسي لتهدئة الاوضاع وافساح المجال امام الاعتدال الديني والخروج من هذه الخرافة التي عشعشت وجعلت لا سلام إلا بفناء قبيلة الاشولي او رحيل حكم موسفني!

ان هذا الارهاب المسيحي يحتاج الى جهد مكثف من المراجع الكنسية العالمية والافريقية حتى يمكن وضع حد له قبل ان يتفشى في كل القارة، وما لم يتحرك المجتمع الدولي بتضافر وقوة، فإن سلام السودان الوليد مهدد بالانهيار وكذلك نظام الحكم في يوغندة.

لا يكفي ان تدرج الولايات المتحدة جيش الرب على قائمة الارهاب وتسكت، وانما يلزمها ان تتحرك على المستويات كافة. وليس مقبولا على الاطلاق ان لا تلعب الدوائر الغربية السياسية والمسيحية دورا بارزا في مكافحة الارهاب المسيحي ناهيك عن السكوت عليه بما يشبه التستر.

لا بد من تكرار المحاولة التي قام بها مركز كارتر قبل ثلاثة اعوام والتي استخدم فيها شخصيات دينية مسيحية بهدف التوصل الى اتفاق مع قائد جيش الرب وافسدها بشكل اساسي الرئيس موسفني الذي قاد بنفسه حملة عسكرية اطلق عليها وقتها وصفة القبضة الحديدية، والتي انتهت الى فشل مريع.

نريد حملة سياسية ودينية في آن تضغط بشكل ملموس على كلا الجانبين للتسليم بمنطق العقل والوصول الى السلام. ولا شك ان الولايات المتحدة هي الاقدر على ممارسة هذا الضغط على الرئيس اليوغندي ليكف عن عناده وحلمه المستحيل.

وكذلك على مدعي النبوة القس كوني الذي وصل اعلى مراتب الارهاب مستخدما الدين المسيحي، وما لم يحدث هذا الضغط على الطرفين وبالسرعة المطلوبة فإن سلام السودان مرشح للانهيار من زاوية لم تكن في الحسبان.

عجيب أمر هذا السودان الذي عانى كثيرا من حكم المتشددين الاسلاميين وما لبثت اوضاعه تهدأ قليلا وتعتدل حتى وجد نفسه امام تطرف مسيحي لا قبل له به، ولا يد فيه، يهدد سلامه واستقراره، والاعجب من ذلك كله انه في مرحلة سابقة وعندما كان حكم الاسلاميين في قمة تشدده في السودان انعقد بينهم وبين جيش الرب تحالف وامدوه بالكثير من مصادر القوة التي يتمتع بها الآن منظور معاملة المثل مع موسفني الذي كان يدعم الحركة الشعبية ضد جيش السودان والتي اصبحت الآن الشريك الثاني في الحكم!

وحتى الآن تبقى المبررات الدينية الاسلامية والمسيحية التي ادت الى ذلك التحالف ضربا من الالغاز!