تطوع تسلم

TT

كلما مررت في الشارع ذاته، وجدتهم يقفون مع بائعي اليانصيب والمتسولين، الذين اعتدت على وجودهم حتى صاروا من أعمدة الطريق، شدت أذني جملتهم الأولى فوقفت:

ـ نحن طلاب الجامعة اللبنانية، نقوم بحملة برنامج نظافة المدينة!

يعلقون بطاقاتهم الجامعية على صدورهم، يمنحونك شعار برنامجهم، «من أجل مدينة نظيفة»، وكيسا صغيرا لجمع النفايات، ويتركون لك حرية التبرع لصندوق حملتهم، الأسبوع التالي وقفت جماعة أخرى، طلاب الجامعة يقودون حملة لجمع تبرعات اليتامى، يمدونك بمعلومات احصائية عن عدد اليتامى في لبنان ونوع برامج خدمتهم، ويتركون لك أيضا حرية التبرع بما جادت به نفسك.

تاليا عرفت أن هؤلاء يقومون بإنهاء ساعات من برنامج عمل تطوعي هو جزء من المقررات الدراسية الجامعية، فتذكرت صديقة لي اضطرت لإلحاق ابنها في إحدى المدارس الأميركية، فطلبت منه المدرسة أن ينهي 60 ساعة من العمل التطوعي في احدى المؤسسات الاجتماعية لكي يستطيع الحصول على شهادته الثانوية.

العمل التطوعي هو آخر مفهوم تلتفت إليه وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي لدينا، لادراجه ضمن مناهجها، رغم التوق العارم للخير ومساعدة الناس في نفوس الشباب السعودي ذكورا وإناثا، والذي لمسناه طوال السنوات الماضية، حين اختلطت لدينا المفاهيم الخطابية المتحمسة، ثم كشفت عن عصابات ومنظمات ارهابية تستغل هذا التوق والشغف وحب الخير في نفوس الشباب وتحولهم إلى عقول لا تجيد غير تفجير نفسها وتفجير الآخرين.

الشباب الذي تورط في قضايا الإرهاب في بلادي لم يكن يبحث في بداية الطريق عن الدماء، لأن من اصطاده أغراه بالحب والرحمة والسلام، ذهب بعضهم لينقذ يتامى عالم مجهول لديه، لكنه ظن أن طرق الخير آمنة، وذهب بعضهم استجابة لدعوات نصرة الضعفاء والمضطهدين، كل هذه النوايا الطيبة هي في حقيقتها مضمون العمل التطوعي، فلماذا لم نفرغ تلك الطاقات في دروب الخير المحلي تحت رعاية مناهجنا التعليمية وبرامج تدريبية تفيد الناس والمجتمع، بدلا من ترك هذه الطاقة تتفجر في الأماكن الخطأ.

في بعض الولايات الأميركية يقوم بعض الناس بالتبرع بساعة من وقتهم في الصباح والظهيرة لتنظيم خروج الطلاب الأطفال من مدارسهم، والإشراف على العودة إلى مدارسهم بأمان، ويلمسون كم هو عملهم رائع وعظيم في عيون الناس وفي أنفسهم.

بعض الناس لا يشعرون أبدا أنهم من سقط المتاع طالما أن لديهم ما يفيد المجتمع ولو بشق تمرة، كما في الحديث، إن زرع هذه المفاهيم ورسم خطوطها لتبدو أكثر وضوحا وأمانا من ساحات الحرب وبطولات المعارك، تجعل من مفهوم العمل التطوعي عملا لا ينقطع، يشارك في برامجه الناس، نساء ورجالا، الشيوخ والأطفال، بدلا من أن يضطر فيه المرء أن يخترع له أوهاما يضيع فيها، بحجة الكبر أو بحجة الفراغ أو بحجة أنه صار عديم الفائدة.

[email protected]