مقاييس الصحف

TT

كل ما نراه من حولنا مصمم عن قصد، إرضاء لكم جمهور المستهلكين من علب التونة الى كراسي الجلوس. كلها تخضع لدراسات دقيقة ومن بينها البضاعة التي بين يديكم، الصحيفة، في حروفها وأحبارها وإخراجها وتصنيع ورقها وتصميم حجمها، ومواقع إعلاناتها وتسعير أثمانها.

لذلك عندما اتجهت الصحف البريطانية الكبرى حجما في الورق والكبرى في الأهمية الصحفية، في الآونة الأخيرة الى تجريب احجام اصغر، اثارت لغطا بين اهل المهنة. فقد كان الحجم مرتبطا بالاحترام. الصحف الكبيرة في الورق تسمى محترمة، والصحف الصغيرة تسمى بالتابلويد والصفراء. وانقسمت الأمة الى فئتين، النخبة تقرأ الصحف الكبيرة، والعامة تقرأ الصحف الصغيرة، وتوحد المعلنون بإعطاء معظم اعلاناتهم للصحف المحترمة الكبيرة، وصار السؤال عند المتعالين هو قل لي ما تقرأ اقول لك من انت.

لكن وبعد عقود من الأمر الواقع الذي قسم المجتمع، فاجأ الكثيرين انتقال صحيفة كالتايمز اللندنية الى الحجم الصغير، بعد صحيفة اكثر شبابا هي الاندبندنت. وعمليا بدأت بذلك ثورة على التقليد.

لذلك كان الخبر الذي نشرته «الشرق الأوسط» على صفحتها الأولى ذكيا في التقاط التغييرات وتفسيراتها، خاصة انه يدل اهل المهنة من الناشرين والصحفيين العرب على انماط جديدة، ويشجع على «الثورة» على المألوف المهني داخل الجسم الاعلامي.

الخبر أورد تبريرا لصحيفة الجارديان يدلل على رضوخها وليس على اكتشاف جديد. فالصحيفة العريضة المنكبين تحولت للحجم الصغير، اكبر قليلا من صحف التابلويد، لأن مقاييس الصفحات الكبيرة تزعج ركاب الحافلات والقطارات، وهم الأغلبية. مبرر سليم لكن القراء يشتكون منذ زمن بعيد. فالمساحة الضيقة في داخل عربات القطارات والحافلات عمرها اكثر من مائة عام، فلماذا لم تكتشفه الصحف المحترمة الا البارحة؟

الحقيقة ان الصحف كانت تفضل المقاس الكبير لأنه يرضي القارئ «المناسب» الجالس في بيته أو مكتبه، وهذا هو القارئ المعتبر. وثانيا لأن الصحيفة تحتاج بالفعل الى مساحات واسعة لتقدم خدمة معلوماتية أكبر. وثالثا، وهو الأهم، إرضاء شركات الاعلان كونها الممول المالي الأكبر للصحيفة، ولا بد من منحها مساحة واسعة تتقاسمها مع الاخبار والموضوعات، ولم يكن سهلا تحقيقه في الصحف صغيرة الحجم. ايضا فتش عن التكاليف وراء اختصار حجم الصفحة، فقد ارتفعت اسعار الورق بدرجة قتلت عددا من المطبوعات الصغيرة في الفترة الماضية.

وبغض النظر عن الحجم، فإن الصحف اليوم انتقلت الى مراحل جديدة متطورة بفضل تقنية النشر والاتصال الحديثة، الى درجة غيرت كثيرا من المفاهيم الاساسية، وأحدثت ثورة في الاعلام المكتوب شكلا ومضمونا. لذا لا اوافق من يقول ان الصحف «المحترمة» اكتشفت فقط اليوم ان حجمها يزعج جمهور المواصلات العامة، بل الحقيقة هي انها اصبحت أكثر واقعية خاصة في ظروف المنافسة الاعلامية الصعبة.