دروس موقعة كرري السودانية سبتمبر 1898

TT

موقعة كرري كما اشتهرت لدى السودانيين هي التي عرفت لدى المحتل البريطاني باسم أم درمان، حيث يقع جبل كرري شمال المدينة، وقد كتب عنها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل كتابا بعنوان «واقعة أم درمان» مقيدا فيه انطباعاته وواصفا سير الجيش الغازي حتى المعركة التي كان شاهد عيان لها، فقد غطى أخبارها كمراسل صحفي آنذاك. وقد شكلت نهاية للدولة المهدية قصيرة العمر في السودان (1885 ـ 1898م). أعقبها الاحتلال الثنائي المصري البريطاني الذي نال السودان استقلاله منه عام 1956م.. هذه الواقعة تلقي بدروس وعبر كثيرة على حياتنا وواقعنا المعاصر.

الدرس الأول:

كان عدد ضحايا المعارك قبل القرن العشرين محدودا يعدون بالآلاف بينما صار ضحايا المعارك في القرن العشرين يعدون بالملايين. «الفضل» في هذه النقلة الشيطانية يعود للتطوير الهائل للمؤسسات العسكرية واستفادتها من التقدم العلمي والتكنولوجي والطفرة النوعية في كفاءة آليات القتال برا وبحرا وجوا.

بقياس ما قبل القرن العشرين فإن ضحايا معارك أو غزو السودان وأهمها معركة كرري كانت أكثر دموية، إذ استشهد فيها عشرون ألفاً إلا قليلا لسببين هما قوة نيران المدفع الرشاش الجديد وبسالة المدافعين الذين واجهوا النيران بلا حساب للعواقب. قال هنتنجتون صاحب نظرية صراع الحضارات «إن نهضة الغرب السياسية والاقتصادية أدت لقدرات تنظيمية وعسكرية هائلة هي التي مكنته من إخضاع العالم. إنه لم يخضع العالم بتفوق أفكاره أو دينه أو قيمه ولكن بتفوقه في استخدام العنف المنظم». ولذلك كانت المواجهة بين بلداننا والغرب غير متكافئة ولذلك تكرر مشهد كرري من حيث كثرة ضحايانا وقلة ضحايا الغزاة في مشاهد كثيرة حاكت مشهد كرري في حرب الأيام الستة 1967، في حرب أفغانستان 2001، في حرب العراق 2003، وهلم جرا.

إن احتكار السيطرة على أسلحة الدمار الشامل هو في إحد جوانبه حرص على أن تبقى المعادلة العسكرية غير متكافئة باستمرار.

الدرس الثاني:

الدعوة المهدية مزجت ما بين الزهد في الدنيا الذي أوجبه التصوف والتضحية الفدائية التي أوجبها الجهاد فغرست في أنصارها بسالة غير معهودة حتى أن المؤرخ البريطاني فيليب وارنر قال عنهم: «ربما وجدنا في كل تاريخ الإنسانية من ماثلت شجاعتهم بسالة الأنصار ولكن قطعا لن نجد من تفوق عليها». أما تشرشل فقد ذهب لأبعد من ذلك حين قرر أنهم أشجع من على باطن الأرض وظاهرها.. والدرس المستفاد هنا أن بالإنسان طاقات مدفونة تبعثها التربية الروحية والتعبئة، بحيث يأتي بما لا يتاح له في العادة.

الدرس الثالث: في تاريخ الإنسانية مواقف واجهت فيها جماعات قوة متفوقة عليهم وصمدوا في وجهها حتى أبيدوا. هذا الصمود بذر بذرة مقاومة في المستقبل. هكذا كان موقف الحسين رضى الله عنه في كربلاء.

خليفة المهدي الذي قاد المقاومة السودانية تصدى للغزو ومهما تفوق الغزاة فإنه وقواده لم يستسلموا حتى أحرقتهم النيران، لقد كان لديه أمل بالنصر إثر كرري فتوجه غربا مع من بقي حيا استعدادا لمعركة قادمة، ولكنه حينما تأكد في «أم دبيكرات» أنه إما الاستسلام وإما الموت فرش فروته ـ مصلاته ـ واستقبل القبلة ولقي الله هو ومن معه من الأمراء والأنصار، إن موقفه البطولي ينصبه بلا مراء سيد شهداء السودان، وحتى أعدى أعدائه الذين ملأوا الأرض بالدعاية الحربية ضده، وعلى رأسهم الكولونيل ونجيت رئيس قلم المخابرات البريطانية، لم يملكوا إلا الإعجاب بهذا الإقدام. بل حتى بعد الأسر الطويل عندما سئل الأمير عثمان دقنة ماذا ستفعل إذا أطلق سراحك قال: «الجهاد».. هذه الروح مددت عمر الدعوة حتى بعد أن زالت الدولة ووفرت طاقة انبعاث متجددة، ها هو المعنى الحقيقي لمقولة: المستشهد لا يموت!. وكالعادة إنه المتنبي المبدع في قيد المعاني الشاردة:

كم قد قتلت وكم قد مت عندكم

ثم انتفضت فزال القبر والكفن!

الدرس الرابع:

إن الاحتكام لقوة السلاح المنظمة في العالم أمال ميزان القوى لصالح الشمال المتقدم وأغرق عالم الجنوب في مرارات لا حد لها ولا عد.

واليوم بعد 107أعوام من يوم كرري فإن المتأمل للمشهد الدولي يرى أن مقاومة الضعفاء للهيمنة الدولية العسكرية قد ابتدعت أسلحة جديدة هي أسلحة الضرار الشامل لتحييد تفوق أسلحة الدمار الشامل. أسلحة الضرار الشامل هي «الإرعاب» والهجرة غير القانونية والقنبلة السكانية والقنبلة الصحية وإنتاج المخدرات والسلوك البيئوي غير المنضبط هذه التصرفات وإن لم تخضع لقيادة مركزية واحدة لا يمكن احتواؤها إلا باتجاه الأقوياء الأغنياء إلى معادلة جديدة في السياسة الدولية تقوم على التفاهم الحقيقي والعدالة مع دفع استحقاقات ذلك.

الدرس الخامس:

أحادية الدعوة المهدية خلقت استقطابا داخليا بين أنصارها وأعدائها هذا الاستقطاب كان منفذا للتخابر والتعاون الخارجي وقام بدور هام في إضعاف المقاومة الوطنية. إن نتيجة كرري كانت حتمية فالآلة العسكرية الحديثة التي تسلح بها السردار «كتشنر» قائد الجيش الغازي، لم يكن للسودانيين قبل بها رغم الصمود، ولكن التوجه الأحادي جعل الغازي يتحدث بلسان بعض الوطنيين ويأخذهم في ركابه.

والدرس المستفاد هنا ضرورة قفل الباب أمام الاستقطاب الداخلي في دولنا وفي مجتمعاتنا وإتاحة المشاركة للجميع، وإلا فإن الغزو الأجنبي الذي تحركه مصالحه الخاصة يتخذ من ذلك كلمة حق لدعم باطله.

والمتأمل للمشهد الوطني الآن يرى أن حرص الحكام على إقصاء الآخرين يفسح المجال واسعا للاحتجاجات والانقسامات الداخلية ومن ثم للتدخلات الخارجية.

السودان يعاني كثيرا من هذه العلة وكثير من حكامه يشدون الرحال لأركان العالم الأربعة ينشدون حلولا دولية للأزمات الداخلية هذا لا يجدي بل الأجدى هو الحرص على توحيد الصف الوطني علاجا للأزمات وقفلا للتداخلات:

وذي علة يأتي عليلا ليشتفى

به وهو جار للمسيح بن مريم!