أحداث 11 سبتمبر.. وبعض المساجد التي تركت وظيفتها..

TT

تمر اليوم ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، هذه الحادثة التي غيرت وجه العالم حيث اصبح عالم ما بعده مختلفا تماما عن ما قبله، اذ كانت ايذانا بعولمة «الارهاب» الذي كان قبل ذلك محلي النطاق، ومن بين مبرراته التي اصبحت موضع دراسة وتقصي انه أصبح صوتا احتجاجيا وأداة للرد على الظلم الاجتماعي ومحرضا للطبقات الشعبية ضد الانظمة السياسية، وكونه عندما عجز عن ان يطالها ذهب ليهاجم الدول الكبرى التي تتكئ عليها، لكن الملاحظ ان كم الهم الاجتماعي قليل في هذا الخطاب الاسلامي، بل لا يكاد السامع او الباحث يتبين فيه اي انحياز طبقي للطبقات الافقر التي يفترض ان يتحدث عنها، كما شاهدنا ذلك واضحا في انحياز الكنيسة في امريكا اللاتينية لصالح المحرومين، ففي مقابل التيار التقليدي المحافظ برز تيار ثان يطالب بالتغيير وتبنى موقفا جديدا يتطلع الى دعم المحرومين والوقوف ضد الانظمة الطاغية، حتى ان بعض رجال الدين وقفوا وحملوا السلاح لمساندة الثائرين ضد الطغيان، فظهرت تيارات دينية ذات طابع سياسي، في الارجنتين مثلا «اساقفة لأجل العالم الثالث»، في كولومبيا «اساقفة لأجل امريكا اللاتينية»، في المكسيك «اساقفة لأجل الشعب»، وفي شيلي «المسيحيون لأجل الاشتراكيه» والكنيسة المتضامنة في بيرو. لهذا فإن قرن اعمال العنف بالفقر يدحضه غياب الهم الطبقي في فقه وخطاب هذه الجماعات.

وهذا يقودنا الى تبين الحاضنة المنتجة لهذه الجماعات، حيث لم يتخرج منفذو احداث سبتمبر من المدارس الدينية الفقيرة في بيشاور، ولا كان منفذو تفجيرات الانفاق في يوليو (تموز) الماضي في لندن بحاجة الى التسجيل في مدرسة دينية باكستانية، فقد اصروا على ان يؤمهم بالصلاة رجال من قرى بلدهم، وهؤلاء اما جاهلون بالعالم او متطرفون، لذا فهل يصلح هؤلاء لكي يشكلوا رؤيـة الآخرين للعالم.

إن إس المشكلة هي عندما يفتقد انسان وفي كل مرفق لخصلة التخصص، وإذا كان اجدادنا موسوعيين حيث كان احدهم يبدأ بالفلسفة مرورا بالفقه ثم الطب والرياضيات وربما وصولا للموسيقى، فأن عالمنا المعاصر بات اكثر تخصيصا لتعقد الحياة ولفضيلة وجدوى تقسيم العمل، وإذا كان التداخل في الاختصاصات ضارا في الاداء الاقتصادي والتنموي فإن النعم التي حبانا بها الله ومكننا من ان ننتفع بها من غير جهد، من دون اغلب شعوب الارض، قد اخفت هذا الخلل فينا.

إلا ان هذا التداخل اصبح خطيرا عندما بات يتنازع الانسان نفسه، واقصد تحديدا تداخل المسجد بالشأن السياسي، ولا اعني هنا العلمانية او فصل الدين عن الدولة، بل اعني تحديدا ترك المساجد لوظيفتها الاساسية وتصديها للشأن السياسي، حتى بات المؤمن الذي يروم الذهاب الى اداء فريضة الجمعة عليه ان يروض نفسه للاستماع الى خطبة سياسية، حيث اقتربت بعض المساجد من التحول الى تجمع من التجمعات الحزبية او السياسية مع فارق الجمهور مع مثل تلك المساجد ملزم بالحضور كونه يؤدي واجب وينجز فريضة، وفي ان الدولة تدفع نفقات تلك المساجد وراتبا للامام لكي يطرح اراؤه السياسية مع توفر عدد من الفضائيات التي بات ائمة المساجد لا يطيب لهم التحدث الا بوجود عدد منها لنقل احاديثهم وتعميم آرائهم.

المشكلة هنا ان من يعتلي المنبر يوظف ويستخدم تاريخا وتقليدا من القدسية، حيث ان كلمات وآراء من اعتلاه تتلبس بالمقدس وتضفي عليه تأثيره. أقول بذلك مع قولي بأنه لا يوجد مانع من ان يشتغل رجل الدين بالسياسة، ولكن عليه ان يحترفها اولا، وأن لا تعود ذاته محاطة بحصانة أو تقديس وان تصبح عرضه للنقد والتقويم.

ومن هنا فالخطر يكمن في النأي بالمسجد بعيدا عن غرضه الذي وجد من اجله وهو عبادة الله، وعندما يترك امامه واجباته الحقيقية وهي تربية النفوس ومعالجة اختلالاتها الاخلاقية، خصوصا ونحن امة تستمد كل منظومتها القيمية من الدين، فلو استذكرنا الجدل القديم على سبيل المثال حول الحسن والقبح، فنجد انه كان هناك من يرى انهما ذاتيان يدركان بالعقل دون توقف على النص والمأثور، ويستدل القائلون بذلك بان كل الامم سواء الموحدة منها او حتى الوثنية تقر مثلا بان الصدق وبر الوالدين حسن، وان الكذب وعقوق الوالدين قبيح، في حين بقي التيار الاغلب يعلق الحكم على الاشياء برأي الشرع فيها، حيث يرون بان الشيء حسن او قبيح لان هناك نصا يقول كذلك، من هذا استدل بان كل قيمنا تستمد من الدين وهذا يقود بالتالي الى اهمية دور المسجد في تشكيل منظومتنا القيمية.

لهذا فإن رسالة المسجد الاساسية هي ترسيخ الاخلاق والتي قال رسولنا (عليه الصلاة والسلام) انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق والتي يقينا لو صلحت لصلح المجتمع، ومن هنا فضمن واجبات المسجد اعلاء قيمة العمل مقتدين برسولنا الكريم الذي عندما صافح يدا ووجدها خشنة من اثر العمل قبلها، وقال انها يد يحبها الله ورسوله، وغاية المسجد تبصير الناس بأمور دينهم وابعادهم عن الغلو والتطرف، كما ان مهمة المسجد التحصين ضد الفساد الذي بتنا نقترفه ولا نجد غضاضة في الجمع بينه وبين ادائنا لعبادتنا، فهل هذه وغيرها من واجبات رعاية الارواح وتكوين المنظومة القيمية والاخلاقية للمجتمع مهمام قليلة او هامشية لكي يتركها رجل الدين وينشغل بالسياسة؟

لهذا فكما درجنا على ان نعمل دراسة جدوى سياسية او اقتصادية، حان الوقت لكي نعمل دراسة جدوى دينية وان نقيم فيها معطيات بعض مساجدنا؟