القسوة والرحمة

TT

هل صحيح أن العصا لمن عصى؟! ليس على كل حال أن ذلك صحيح، لا أريد أن انصب حالي طبيباً نفسياً واجتماعياً لأنني بالفعل لست كذلك، ولكني قرأت انه بعد البحث والتقصي لأكثر من 40 سنة ثبت أن العصا لا تؤدي إلا إلى نشأة أطفال أكثر شراسة من نظرائهم، رغم أن العقاب الجسدي قد يقضي على الانحراف على المدى القصير، إلا أن نتائجه قد تكون وخيمة على المدى البعيد، وقد درس الباحث النفسي (ليونارد ايرون) حالة 860 طفلاً في عمر الثامنة، فاكتشف أن هناك علاقة واضحة بين درجة العقاب الجسدي الذي تعرض له الأطفال ودرجة الشراسة التي حكم بها عليهم أطفال آخرون، وبعد 22 عاما ثبت صحة بعض هذه الحالات.

واذكر عندما كنت في بداية المرحلة الابتدائية كان هناك أستاذ للحساب يدرسنا (جدول الضرب)، وكنت للأسف من (الخيبانين) في هذا المجال، وإذا غلط التلميذ يخيره الأستاذ بطريقة (ديمقراطية) هل يريد عقابه ضرباً على يده بالعصا، أم (قرمعة) على رأسه باليد ـ والقرمعة لمن لا يعرفها هي أن يثني الأستاذ يده وينقر بإصبعه الكبير نقراً شديداً على جمجمة التلميذ، وكنت على الدوام اختار أن اضرب على يدي بالعصا، ليس خوفا من أن يرتج مخي من ضربة على جمجمتي، ولكن فقط خوفاً من ان تتخرّب تسريحة شعري.

والواقع أنني بعد أن قرأت بحث البروفسور (ايرون) عن الضرب وعلاقته بالشراسة فيما بعد، عرفت الآن لماذا أنا شرس إلى هذه الدرجة المفترسة، والحقيقة أنني فرحت بهذه المعلومة كثيراً، لأنني عذرت نفسي في كل ما افعله، فالحق ليس عليّ ولكن على من ضربوني.

هذا بالنسبة للأطفال، ولكن ما رأيكم في رجلين مسنين كلاهما في بداية الثمانينات من العمر، تنازعا على قطعة ارض بمنطقة الباحة بالسعودية، واشتبكا في عراك قوامه الصفع والركل والعض، وتدخل الحضور وفضوا بينهما، وحاولوا اصلاحهما غير أن كل واحد منهما ركب رأسه، وذهبا إلى القاضي، فحكم بحقهما حكما تعزيريا تضمن السجن لبضعة اشهر، وجلد الأول 300 جلدة والآخر 180جلدة.. غير أنهما عندما سمعا بهذا الحكم وإذا بكل واحد منهما يهب من على كرسيه ويتجه إلى الآخر ويتعانقان ويتصالحان ويحلان اشكالهما خلال دقائق.

طبعا هذان العجوزان (الشرسان) ليسا بمقياس.

والسؤال الذي لا بد له أن يطرح يقول: ايهما أكثر (قسوة ورحمة) ـ لاحظوا مرة أخرى: ايهما أكثر (قسوة وفي نفس الوقت رحمة): جلد الطفل لتأديبه وتعليمه؟!، أم جلد العجوز لردعه ومحاسبته؟!.

[email protected]