سبتمبر السعودي: تجديد الخطاب الرسمي

TT

تعرض المجتمع السعودي مع تداعيات 11 سبتمبر خلال السنوات الماضية، لأكبر عملية نقد فكري ومراجعات داخلية مختلفة لوعيه الاجتماعي والثقافي والسياسي، وكان للاهتمام الخارجي الغربي المتزايد في الشأن السعودي، دور في تفعيل وجدية هذه الحوارات، وشاركت فيها مختلف التيارات والأطياف الفكرية والدينية عبر منابر إعلامية متنوعة، استفادت من زيادة مساحة الحرية التي فرضتها مجموعة متزأمنة من المؤثرات. جاءت هذه الطفرة النقدية على عدة مستويات شعبية ورسمية، داخلية وخارجية، واختلط فيها ما هو جاد وحقيقي بما هو هامشي ومغرض.

وقد شكل هذا النقد الموسع درجة من القطيعة مع الكثير من القناعات والرؤى التي سادت خلال ربع قرن في مؤسسات رسمية، واهتزت تصورات كانت تبدو من الثوابت في الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي، أثرت على رؤية المستقبل وتغيراته المنتظره في عدة مجالات. كان المجتمع بحاجة لمثل هذه الهزة الفكرية، التي صنعت هذا المناخ التصحيحي، حيث تعرض الخطاب الديني والتعليمي والنشاط الثقافي والإعلامي لانتقادات موسعة، وتشكلت أسس جديدة في المشهد الفكري العام، أفرزها هذا التحول التاريخي الذي أصبح بحاجة إلى تجديد الخطاب في أكثر من مجال.

تواجه تجربة تحديث المجتمع السعودي وصناعة خطاب ملائم لها، تحدياً من نوع مختلف عن كثير من التجارب التنموية في العالم العربي، للتوفيق بين واقع اجتماعي وديني وبين متطلبات العصر. فالإمكانات المادية تؤهل للانتقال إلى مجتمع أكثر تقدما ونموا حضاريا، لكن إدارة هذه القدرات وبحكم صعوبة القياس مع تجارب أخرى لظروف ثقافية ومكانية وتاريخية، لا تسمح بمقارنة موضوعية.

فأصبحت هذه التجربة محكومة في كثير من حراكها السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالمحاولة والخطأ، للتعرف على مدى صلاحية هذه الممارسة، أو ذلك الخطاب في كل مرحلة. ظهرت تفسيرات متعددة لهذا التعثر التنموي في سياق معالجات ظاهرة التطرف الفكري، التي لا ينفي القول بشذوذها بوجود بيئة هيأت لهذا الفكر بالتمدد والاستقواء داخل المجتمع في أكثر من مجال. مواجهة هذا الخلل التحديثي في هذه المرحلة، هو أبرز التحديات أمام المؤسسات الرسمية، وفي سياق المحاولات الرسمية الجادة للتغير والإصلاح التي يشعر بها المواطن السعودي، تبدو هذه المرحلة بوعيها الاجتماعي الجديد بحاجة إلى تطوير في الخطاب الرسمي وتجديد بعض محتواه. المقصود بهذا الخطاب ليس نصا حرفيا مكتوبا يتكلم به فرد، إنما مجموعة من المفاهيم والألفاظ التي تتوارث بتلقائية وعفوية وتقليد روتيني في كثير من المناسبات والفعاليات الرسمية الصغيرة والكبيرة، ويحفظها المسؤول الكبير والصغير، الذي يتدرج في سلم المناصب، دون أن يتم اضافة مفاهيم جديدة وتعبيرات تتماشى مع ظروف كل مرحلة وتحدياتها، لنستفيد من قدرات كل صاحب مسؤولية وطريقته في التعبير عن مشكلات المجتمع. فمع أن مضامين الخطب الرسمية التي يستمع لها عادة بصورة روتينية في مختلف المناسبات، إلا أن لها تأثيرا حقيقيا في توجيه الرأي العام وإشعار المواطن العادي بطبيعة كل مرحلة.

إن تكرار الحديث عن المحافظة على قيم معينة وثوابت متفق عليها كمرجعية لمجتمع مسلم ومحافظ، لا يمنع من اضافة مرئيات وأبعاد جديدة وعملية في فهم مثل هذه القيم، تعزز الوعي الواقعي شعبيا، وتطور من ذهنية الفرد العادي في التعامل مع المتغيرات وتهيئه لها، وحتى لا تصبح مثل هذه القيم التي يعتز بها المجتمع مجرد شعارات مكررة يُساء فهمها وتطبيقها. هذه المرحلة قد تحتاج إعادة النظر في بنية هذا الخطاب ومراجعة بعض مضامينه ومدى تأثيره على الوعي العام ودوره في التغيير والإصلاح، هذا الخطاب كان في بعض الحالات والمراحل مرتهنا للبُعد المتشدد لبعض الظروف التاريخية، وأصبح قابلا للمزايدة عند أكثر من طرف، حتى عند التيار المتطرف في تبرير وتمرير مقولاته. من المهم تجديد الخطاب الرسمي وضخ أكبر قدر ممكن من الأفكار والمفردات الجديدة التي تخدم متطلبات المرحلة وتطوير أدوات التأثير على الرأي العام، عبر البرامج والمناسبات المحسوبة على جهات رسمية.

تبدو مشكلة هذا الخطاب الذي أصبح مع مرور الوقت وشيوع التقليد العفوي عند كل مسؤول وضعف المبادرة الذاتية، محصورا في دائرة ضيقة جدا من الألفاظ يعيق الاجتهاد الشخصي لكل مسؤول، ويُعاد تكراره في مختلف اللقاءات والفعاليات بصور متقاربة، بدءا من الطابور الصباحي والاحتفالات المدرسية إلى أكثر الفعاليات رسمية، لا يوجد ما يمنع أي مسؤول في كل جهة حكومية من تطوير خطابه للمجتمع في الشأن المختص به، التشابه الشديد والاستنساخ النقلي أعاق تطور هذا الخطاب من أداء دوره في التنوير بالمشكلات الاجتماعية والحضارية، وأصبح أي اختلاف يوحي بأنه تمرد على تقاليد عامه ورسمية، فلم يستفد المجتمع من مسؤولين تعلموا تعليما عصريا في حواراتهم الصحافية ولقاءاتهم الإعلامية، فمن النادر العثور على حوارات ساخنة وجريئة في تقييم الوضع في كل مجال، وهذا الجمود من العوامل التي أضعفت جاذبية الصحافة المحلية. لا يوجد ما يغري للتمسك الحرفي بهذا الخطاب في بعض جوانبه، فالمتشددون يرون أنه للاستهلاك العام، والتضليل لإخفاء ما يرون أنه ضد رأيهم، وهم أيضا يستعملون هذا الخطاب كحجة في تبرير تشددهم إذا شعروا بالحاجة إليه في معاركهم الفكرية مع الخصوم في إعاقة أي تغيير وتطوير في مجال من المجالات.

إن المرحلة تتطلب أن يسهم الكثير من المسؤولين في التربية والإعلام والاقتصاد والشؤون الدينية، بتطوير هذا الخطاب بمبادرة ذاتية، وتقديم الجديد في تصريحاتهم وتعليقاتهم وحواراتهم وخطبهم في المؤتمرات والمناسبات المحلية، مما يساعد المشتغلين في الصحافة والفكر في عرض قراءات وتحليلات عميقة لهذه الأحاديث من أجل نشر بعض المفاهيم الواقعية والحضارية لتوعية المجتمع بالتحديات الجديدة. الخطابات التقليدية المكرورة في كل ندوة ومؤتمر واحتفالية، لا تساعد الإعلام في تناول هذه القضايا بعيدا عن التقليدية الرتيبة. من غير الممكن تصور تغيير في الرأي العام حول بعض القضايا وتجاه محاولات التحديث لمواجهة التطرف، دون تطوير وتجديد بعض مضامين هذا الخطاب الذي يوجه الرأي الشعبي بظروف وطبيعة كل مرحلة ومتطلباتها.

من الممكن تطوير هذا الخطاب الذي كان له الكثير من الإيجابيات التاريخية في تجربتنا الحضارية وعزز ثوابتنا الوطنية الخاصة، من خلال الاستفادة من خبرات وقدرات الأعداد الكبيرة من المسؤولين الكبار والصغار في كل مؤسسة رسمية وخاصة. هذا التطوير المطلوب ليس الانقلاب على ثوابت الماضي، إنما مراعاة ظروف كل مرحلة وثقافة كل جيل ليتلاءم هذا الخطاب مع الوعي الاجتماعي والتحول الجديد.