.. وحين يحكي الفن عن نصيبك من الحضارة..!

TT

طالعتنا الشرق الأوسط في صفحتها الأولى بصورة الرئيس البرتغالي يصافح الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير، بمناسبة زيارته لافتتاح معرضه التشكيلي في العاصمة البرتغالية لشبونة، وحين يأتي خبر كهذا وسط زوبعة من عناوين تحكي عن العائلة السعودية التي تناشد ابنها بالعودة من العراق، وعلاوي واتجاه بلاده نحو الهاوية، وعرفات وسر وفاته، والأمن السوري واشتباكه مع جند الشام، و.. و... أقول حين تقطع 30 لوحة تلك المسافة كي تنتظر زوارها ليتمتعوا برؤية صاحبها للجمال، وحين نعي أن حسن الصورة أمر مشاهد ظاهرياً، بينما جمال العقل الذي هو باطني يحتاج إلى الأفعال وردودها حتى يظهر للرائي، عليه، يكون تعليقنا: هل نكون قد أضعنا مع كل اللأمنطق المجنون من حولنا مفتاح جمالنا الداخلي؟ ثم، وهل من الصعب بعث هذا الجمال الذاتي والمزاوجة بينه وبين الواقع، فنضفي على تعاملنا الخارجي درجة من السمو الروحاني التي هي في الأصل نفحة من روح الخالق فينا، فإذا بالباعث إلى الشر والقبح وقد تقلص لصالح قوة الشعور الحي بالخير؟

يقول إيليا أبو ماضي: والذي نفسه بغير جمال...لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً، وعندما تنظر العين فلا ترى ابتسامة الوليد، وتنصت الأذن فلا تسمع لحن الطبيعة، يتساوى لديها الموت مع الحياة، والجنان التي استحالت رؤيتها أرضاً، يُسعى إليها في السماء، بتشجيع الزرقاوي ومن على شاكلته، ولِمَ لا والنشأة الخالية من تلمس مواطن الفن قد عطبت الذوق، وسدت قنوات الرحمة وسلامة الإحساس في النفوس فسهلت غسل الأدمغة وانقيادها. إن طبيعة الوسط الثقافي حتماً ما تؤثر في استعدادات الطفل واستثارة ملكة إبداعه وطاقات خياله، وهي تربية تبدأ من البيت كما أسلفنا مراراً، ثم المدرسة، وما يتبعها من مراحل حياتية متشابكة، ولندخل مباشرة في موضوع المدارس، والسعودية تحديداً، فنأخذ جولة في مفهومها الفني.

في ستينات القرن الماضي وبميزانية 200 مليون ريال للأنشطة الفنية بخاماتها وأدواتها ومعارضها استطاعت وزارة المعارف (التربية والتعليم حالياً) خلق حالة تنافسية بين طلاب المدارس، تصاعدت إلى العديد من الفعاليات والدورات اللاصيفية، ليتحول الوضع إلى خلافه وبعد حوالي أربعة عقود من تاريخه، فيتدرج البند المالي هبوطاً إلى الـ20 مليون ريال، وإلى 15 عاماً على إغلاق معهد التربية الفنية للمعلمين بالرياض، والذي كان بمثابة كلية مصغرة للفنون الجميلة، وبدلاً من تطوير مادة التربية الفنية، وزرع احترامها وتوسيع نشاطاتها، لا تتعامل وزارة التربية والتعليم بشكل جاد وعلمي مع هذه المادة المهمة، ولا تضع لها حسباناً في المنهج العام لمراحل التعليم يضمن توافقه مع المراحل العمرية للطالب، وإنما يترك الأمر لاجتهاد المعلم وحماسه الشخصي، وليس إلى مدى موهبة معلم يتفاعل مع عالم الجمال، وليس إلى برامج منقّحة من قبل المؤهلين، وليس إلى دورات متخصصة في مجال التربية والفن وعلم النفس لمزيد من الخبرة في سلوكيات الطفل والتعاطي معه، فيكفي أن الحصص الفنية من أوائل المواد التي يُلجأ إليها لسد العجز في حصص باقي المواد، خاصة في أواخر الفصل الدراسي، وبمباركة من معلمي المادة ومدير المدرسة أحياناً.

عند إطلاق الحملة الوطنية لمكافحة الإرهاب، وتوجهها إلى 5 ملايين طالب وطالبة في 30 ألف مدرسة للتنفيس بإنتاجهم عن رؤاهم، وزّعت على الصفوف الأولى الابتدائية رسومات مفرّغة لمنشآت وطنية من وزارات ومطارات ونحوها ضمن مسابقة للتلوين والرسم، فأين هي رسالة الابتكار والإبداع التي نرسلها إلى صغارنا بإعطائهم رسومات جاهزة عليهم تلوينها؟ أين الحرية في رسم الطفل التي هي من صميم نظريات التربية للكشف عن مفردات الإنسان، وعلاج انحرافها مبكراً؟ أين حصة الرسم التي انتقلت إلى الطبيعة عوضاً عن غرفة الفصل المغلقة؟ أين رحلات المدارس إلى المعارض التشكيلية المصاحبة بشرح مبسط للمدارس الفنية المختلفة؟ ثم، وعند الانتقال إلى تلك المسابقات التي نسمع عنها من وقت لآخر، فهل جاءت بعد ثقافة تشكيلية مسبقة اكتسبها الطالب المشترك من دراسته ودوراته فوضحت له أسس تنظيم المعروضات، أو أصول تناسق الألوان والمساحات والأبعاد وتوازنها مع الأحجام؟ صحيح أن هناك مؤسسة الملك عبد العزيز لرعاية الموهوبين، ولكن هل يعني وجودها قبول جميع طلاب المملكة فيها؟ هذا إذا افترضنا وعي القائمين عليها لمسؤوليتهم الإرشادية والإبداعية في تحفيز كل حالة حسب ميولها.

فإذا استدرنا إلى عالم الكبار، استوقفنا تصريح للدكتور عبد الله الجاسر وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الإعلامية عند افتتاحه لأحد المعارض أخيرا، يؤكد فيه أن الوزارة بصدد إصدار بطاقة تعريفية للفنان السعودي، تربطه رسمياً بوزارة الثقافة والإعلام التي ستكون بمثابة المرجع للمنتمين إلى منطقة الإبداع الفكري والبصري، فضلاً عن التفكير جدياً في تأسيس إدارة متكاملة للفن التشكيلي داخل قطاع الثقافة، وهي خطوة إيجابية كي لا تظلم باقي الجوانب الفنية الأخرى فيما لو ضمت القطاعات الثقافية مجتمعة في باقة واحدة.

بقي أن نقول كيف يمكن للفن بفروعه (رسم، حفر، نحت، تصوير) أن يوظّف رسالته في خدمة المجتمع من خلال الجهود التطوعية، سواء في إعداد وتقديم ورش للأعمال الفنية في السجون، أو مراكز الأحداث ومستشفيات معالجة الإدمان، أو في إيجاد مراكز للهوايات الفنية لأبناء الحي الواحد، أو حتى بالتبرع بجزء من ريع المعرض الفني لصالح المؤسسات الخيرية.

وأخيراً، وبالرغم من دور الصالات الخاصة في خدمة الحركة التشكيلية، إلا أن مبالغة بعض أصحابها في رسوم تأجيرها لا يحسب للقطاع الخاص، فدعم الفن ليس قاصراً على المستوى الحكومي وحده، وحيث إن الإنسان قادر على صنع الإبداع وتصديره أينما كان، فلنعكس للعالم صورتنا من خلال فن راق يحكي قصتنا، وكما قيل يوماً: كم ربح المستشرقون برسوماتهم عنا، فلِمَ لا نحاول فنكسب أكثر باحترأمنا لموهبتنا وإيماننا بقيمتها؟