شجرة ذات أثمار كثيرة

TT

كان الدوس هاكسلي يقول، بعدما وصل الى ذروة شهرته الادبية، انه عمل في شبابه في مجلات مثل «فانيتي فير» و«المنزل والحديقة»، وكتب في السينما والموسيقى. وعندما كبر وتطلع الى الخلف، رأى انه افاد كثيراً من كل عمل صغير قام به في الصحافة. وانتهى الى الاستنتاج بأن الافضل للكتّاب ان يجربوا جميع الحقول، لأن كل حقل تجربة.

ولا أريد القفز من فوق السياج الى حديقة الجار الكبير. فالكتابة عن عباس محمود العقاد من اختصاصه وهو الذي عايشه ورافقه وكتب «في صالون العقاد». غير انني اعتقد ان العقاد كان ابرز مثال في العالم العربي على طاقة التعدد وقدرة التنقل. وكان مثل قفير نحل فكري، لا يغط على شجرة او زهرة، إلا ويغوص في رحيقها ويصنع قالباً من الشهد من اجل سواه. وكانت له محاولات في كل شيء، من السيرة الى الشعر الى نقد حزب «الوفد»، كما تروي فاطمة اليوسف في مذكراتها. وتقول في شيء من التلميح الساخر إن العقاد انتقل من موقع الى موقع بسبب 80 جنيهاً في الشهر. ويشبه ذلك قول احد النقاد ان ريتشارد فاغنر، كان كثير الديون. ومنذ فترة قصيرة قرأت لناقد حديث ان العقاد ارتكب خطأ لا يغتفر عندما ترجم بعض الكتب لحساب «دار فرانكلين» الاميركية. ونسي هذا الجهبذ ان ذلك حدث في مرحلة لم تكن فيها اميركا قد وصلت الى الشرق الأوسط، وانه يومها كان البعض يرى فيها حليفا ضد الفرنسيين والانكليز.

هذا شأن الأنفس الصغيرة. فلم يعرف صاحبنا ان الاجهزة الدعائية الاميركية عادت فدخلت الى النشر العربي من خلال وكلاء حصريين ومعلنين. واما الناقد الكبير محمد مدكور فقد رأى تملك العقاد من اللغة الانكليزية واحداً من انجازاته المعرفية التي لا تعد: «وبذا اضحى موسوعياً في عصر تقسيم العمل وتحديد مجال النشاط، وأبى الا يكون ـ الى جانب الادب ـ فيلسوفاً يعارض الفلاسفة، وعالماً يجادل العلماء في الكيمياء والطبيعة والجيولوجيا وعلوم الاحياء. بهذا الزاد الوفير من لغة وادب وعلم وفلسفة أدى العقاد رسالته في مجمع اللغة العربية».

هل كان الغنى التعددي وحده سر العقاد؟ لا. كان هناك، اولاً، اسلوب العقاد في تبسيط المعقّد. وفي الكتابة للناس لا لنفسه. وهناك مفكرون كثيرون اليوم احاول ان اقرأهم ولا أستطيع. وأشعر بشقاء بسبب ذلك لأنني اعرف ان لديهم حقاً ما يستحق ان يقرأ وان يعرف. وما جدوى الكتابة او الفكر الذي لا يصل الى احد. وهناك أيضا نوع آخر من الكتاب الذين يكتبون في موضوع واحد، عاماً بعد عام. ويقرأون صحيفة واحدة. وكتاباً واحداً. ثم يلتفتون الى العقاد من تحت وينتقدون الشجرة التي فيها كل ثمر.