هذا العلم

TT

ربما كان أول بيت من الشعر تعلمته في حياتي، مطلع قصيدة جميل صدقي الزهاوي:

عش هكذا في علو أيها العلم

فإننا بك بعد الله نعتصم

وكان الشاعر قد ألقى القصيدة الشهيرة التي حكم على جميع طلبة المدارس حفظها عن ظهر قلب في العراق، في حفل تاريخي حضره المغفور له الملك فيصل الاول لغرض فرض العلم العراقي ورفعه لأول مرة. وتبارى الخطباء والشعراء لإلقاء ما في جعبتهم في المناسبة، وكان بينهم الزهاوي. ويقال ان الحاضرين افتقدوا الشاعر الكبير بينهم وتعجبوا من غيابه حتى كانت المفاجأة عندما فتح الباب الكبير ودخل الزهاوي راكبا حمارا مزينا بالعلم الجديد. ونزل ليلقي قصيدته الشهيرة مخاطبا الراية المرفوعة فوق قصبة مردي متواضعة. ويقال ايضا ان المخطط كان ان يحضر الزهاوي على صهوة جواد عربي اصيل، ولكن الشاعر كان يخاف من ركوب الحصان فارتضى بالحصان الحساوي. وما ان بدأ بإلقاء قصيدته من على ظهر الحمار حتى لمحه معروف الرصافي الذي كان يحتقر الزهاوي ويعتبره «زعطوط» من الدرجة الاولى. وخرج وهو يتمتم: «ليش تلوموني اذا ما اقعد معه». في كل الدول يحاط الانسان بالعلم الوطني ويحاط العلم الوطني بشتى القصائد والاناشيد ويحرس بقوات الشرف. انه الشيء الوحيد في العالم الذي يصعد وينزل بموسيقى. وترجع كل هذه الفخفخة بالطبع لأيام الفروسية عندما كان المقاتلون وحملة الرسائل يعرفون مكان القائد من العلم المرفرف فوقه. وعندما لا يجدون للعلم أثرا يعرفون ان العدو قد اجتاح القيادة. ولهذا كانت المعارك تجري فعلا من اجل العلم واصبح بقاؤه رمزا لاستمرار السيادة والامل بالنصر. وعلى نقيض ذلك يعتبر تمزيق العلم او حرقه رمزا لإزالة الحكم. اقول ذلك وانا مدرك تماما ان الزوال لم يلحق بإسرائيل رغم مشاركتي مرات ومرات في حرق علمها بجانب سفارتها في لندن.

كلما حرقنا علمها أخذت قطعة اخرى من عالمنا العربي. حرق العلم يعتبر من اخزى التحديات لهيبة الدولة. وعانت الولايات المتحدة محنة عسيرة عندما أقدم احد مواطنيها غريغوري جونسن على حرق علمها امام مبنى الحزب الجمهوري. أحيل الرجل للمحاكمة بتهمة «تدنيس شيء مبجل»، ورد المتهم على ذلك بأن العلم الأميركي ليس شيئا مبجلا. انه مجرد قطعة قماش. وحرقها حق من حقوقه التي نص عليها الدستور. استمرت الدعوى خمس سنوات حتى وصلت للمحكمة العليا التي حكمت اخيرا ان من حق جونسن وأي مواطن أميركي ان يحرق العلم اينما شاء ومتى شاء وبأي وقود يعجبه، وعليه فإن إلقاء القبض عليه يعتبر خرقا للدستور ولائحة حقوق الانسان، وبالطبع هلل المتهم لهذا القرار وخرج وأحرق علما آخر امام مبنى المحكمة. الواقع ان قرار المحكمة جاء توكيدا لحق الشعب الأميركي في مشاطرة الشعوب الاخرى في حرق العلم الأميركي. وآمل اننا عن قريب سنجد مدارس الولايات المتحدة تحتفل صباح كل يوم بمراسم حرق العلم بدلا من رفع العلم.