.. لهذا يرفض أنصار «جمهورية تلعفر» المبادرة الأردنية..!

TT

أثارت زيارة رئيس الوزراء الاردني عدنان بدران الى بغداد يوم السبت الماضي نقاشا ومواجهات سياسية حادة في الاردن، وربما أيضاً في المنطقة العربية، فقد اعتبرها المناوئون، الذين يراهنون على «جمهورية تلعفر الإسلامية» بقيادة شيخ المجاهدين! أبي مصعب الزرقاوي، بأنها ليست في محلِّها وأنها جاءت بمثابة طعنة نجلاء في خاصرة «المقاومة»!! وأنها فكت العزلة عن حكومة التحالف الكردو ـ شيعي التي يصفونها بأنها يجب ان تبقى معزولة داخلياً وخارجياً.

وبالطبع فإن أصحاب هذا الرأي، الذين دافعوا عنه باستماتة و«بسالة» في بعض الصحف الاردنية، بمعظمهم من ذوي المواقف المسبقة المنحازة انحيازا كاملاً، لم يتحولوا عنه رغم كل تطورات الأعوام الاخيرة، الى صدام ونظام حكمه، وهؤلاء، بعد تلاحق وتصاعد المذابح والمجازر البشرية التي يرتكبها أبو مصعب الزرقاوي ضد الشعب العراقي، باتوا يراهنون أكثر من بدايات مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق على عـودة الرئيس المخلوع ويعتبرونه الإمام الغائب الذي لا بد من عودته.

وإمعاناً في تشويه هذه الزيارة، التي أرادها الأردنيون تحطيماً لجدار العزلة المضروب عربياً على العــراق والحكـــومة العراقية، فقد اعتبرها محامو المرحلة «الصدَّامية» زيارة لـ «المنطقة الخضراء في بغداد» وليس للعراق والشعب العراقي ووصفوها بأنها ستضر بمستقبل المصالح الاردنية مع هذه الدولة العربية المجاورة ومنطلقين من ان «المقاومة» منتصرة لا محالة وان نظام صدام حسين سيعود وان رقعة «جمهورية تلعفر الإسلامية» ستمتد لتشمل البلاد كلها ومعها أيضاً بعض البلدان المجاورة.

وحقيقة ان موجبات هذه الزيارة، التي جاءت بمثابة إلقاء حجرٍ في مياه بركة الموقف العربي الراكدة تجاه العراق لا تقتصر على مجرد كسر طوق العزلة العربية المضروب حول هذه الدولة منذ نحو عامين ونصف وهي عزلة شكا منها الرئيس العراقي جلال الطالباني مرَّ الشكوى خلال وجوده في أميركا لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة كما شكا منها الشعب العراقي كله وبالمرارة نفسها وأكثر.

لقد واجه العرب بمعظمهم وبصورة عامة التطورات العراقية في مرحلة ما بعد الانتخابات الأخيرة، التي رغم عيوبها ومثالبها الكثيرة إلا أنها تبقى خطوة متقدِمة قياساً بما كان قائماً في المرحلة «الصدَّامية» السابقة، بالكثير من الانتقاد ولقد ذَرِف الأكثر تعلقاً بالماضي وفضائله وأعطياته دموعاً سخية وساخنة على عروبة العراق المهددة وعلى وحدة العراق المحاطة بتحديات كثيرة !!.

والمفترض ان هؤلاء النائحين بدل أن يشدوا شعر رؤوسهم ويمزقوا ثيابهم من قُبلٍ وليس من دُبرٍ حزناً على «القطر» الشقيق وعروبته ان يجعلوا مع نواحهم ودعائهم شيئاً من القطران وأن يغوصوا في الاوحال السياسية حتى أعناقهم ليصلوا الى الشعب العراقي الراعف جرحه العميق ويأخذوا بيده ويشعروه بأنه غير مستفرد وأن أمته معه وإخوته معه وبالأفعال وليس بالأقوال الجزلة الألفاظ وبالأصوات المرتفعة فقط.

تحت هذه «اللافتة» ذهب عدنان بدران الى العراق ولقد ذهب وهو يدرك ان هناك احتلالاً بغيضاً وان هناك فتنة ملتهبة وان هناك دعوات مذهبية وطائفية وعنصرية مُستعرة.. ولكن الواقعية الإيجابية تقتضي الذهاب لإشعار الشعب العراقي بأنه ليس معزولاً ولا مستفرداً وان العروبة ليست ما يكتبه الكتبة المأجورون ولا ما تتضمنه بلاغات وبيانات الاحزاب المتحجرة والمتجمدة والتي توقفت عـند لحظة تاريخية محددة.

ثم وبالإضافة الى هذا الجانب الهام جداً فإن ما توخاه الأردن بالنسبة لهذه الخطوة هو وضع حدٍ لإشعار الحكومة العراقية الحالية بأنها شاة سوداء شاردة وعدم الإبقاء عليها أمام خيارٍ إقليمي واحد وعدم تركها بين مطرقة الإرهاب وسندان التيار الإيراني الأكثر تشدداً و«راديكالية» والذي ينطلق في تعامله مع العراق منطلقات قومية فارسية تتكئ على تطلعات توسعية قديمة.

إن ما يجب إدراكه بعدما رمي الأردن حجراً في بركة علاقات العرب بالعراق الراكدة، بل والآسنة، هو خطورة ان يبقى الباب الإيراني هو الباب الوحيد المفتوح في وجه الحكومة العراقية الحالية، وأي حكومة مستقبلية، وأن يبقى خيار العراقيين الوحيد هو خيار إيران فهذه مسألة مكلفة وسيكون لها تأثيرها السلبي على الانتماء العربي والهوية العربية لهذا البلد.

وهنا ولأن أفضل العبر وأكثرها فائدة تلك التي تؤخذ من التاريخ فإنه لا بد من الإشارة الى ذلك الموقف الايجابي الحكيم والواعي والبعيد عن التحجر العقائدي المقيت الذي اتخذه الاتحاد السوفياتي في نحو منتصف سبعينات القرن الماضي نحو الدول العربية الخليجية التي كانت تعتبر من وجهة نظر المعسكر الاشتراكي الشرقي وأنصاره دولاً رجعية ومتخلفة وتابعة للغرب والولايات المتحدة.

في ذلك الوقت شهـدت بيروت، التي كانت عاصمة الرفض والتشدد العربيين، ندوة دولية ـ عـربية في غاية الأهمية وقد كان المفكر السوفياتي الشهير في ذلك الحين بلاييف المحامي البارع لسياسة بلاده المستجدة تجاه الدول الخليجية وكان محــور حديثه هو عدم جواز ترك هذه الدول مُستفردة من قبل الولايات المتحدة و«الغرب الإمبريالي» وأنه لا بد من دعم وتعزيز علاقاتها النِّدية مع الولايات المتحدة.

ولذلك ولأن التيار المتشدد في إيران هو الأكثر ارتياحا للموقف العربي الرسمي والشعبي الذي يطغى عليه التردد تجاه العراق والحكومة العراقية الحالية فإنه لا بد من الاستفادة من العبرة السوفياتية الآنفة الذكر والمبادرة من خلال القيام بزيارات عربية الى بغداد على غرار الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الأردني بهدف تعزيز نِدِّية العلاقات بين حكومة ابراهيم الجعفري وطهران.