الرجل الأخطر على العراق

TT

في الوقت الذي ركزنا كصحافيين، أثناء مناقشة العراقيين الدستور، على الصراعات الكردية، والشيعية، والسنية حول تقاسم الثروة النفطية، تاه عن نظرنا التنافس المنتظر ما بين العراقيين وغير العراقيين، لأن مراجعة دقيقة لبنود الدستور العراقي يُفهم منها انها تمهد الطريق لمنح غير العراقيين حقوقاً في الثروة العراقية النفطية مساوية لحقوق العراقيين إن لم يكن اكثر.

كانت كتابة الدستور الدائم للعراق بمثابة الخطوة الأخيرة في عملية الانتقال السياسية المتفق عليها ما بين الإدارة الأميركية والأحزاب العراقية التي اختارت ان تتعامل مع الادارة منذ بدء الاحتلال. في كل المراحل حاولت الولايات المتحدة ان تثّبت السياسات التي تُبرز وتحمي مصالحها في العراق، من خلال تقوية يد العراقيين الذين التزموا الدفاع عن تلك المصالح حتى بعد انتهاء الاحتلال الرسمي.

قبل ان تبدأ المعارك جمعت الولايات المتحدة المجموعات العراقية في المنفى، ليس فقط الذين سيدعمون الغزو بل الذين سيدافعون عن سياسة السوق الحرة ويدافعون بالتالي عن قوات التحالف. وفي شهر تموز (يوليو) 2003، اختارت الولايات المتحدة الأعضاء الذين شكّلوا اول تجمع سياسي خلال الفترة الانتقالية، مجلس الحكم العراقي، وبدأ محامون اميركيون العمل الى جانب اعضاء مجلس الحكم بوضع الدستور الانتقالي ضأمنين ان القوانين التي تم العمل بها تحت الاحتلال ستبقى سارية المفعول مع الحكومة الانتقالية، وفي حزيران (يونيو) 2004 اعادت الولايات المتحدة «السيادة» الى الحكومة الانتقالية، واثناء انتخابات كانون الثاني (يناير) الماضي، بذلت الولايات المتحدة جهوداً علنية وسرية من اجل فوز لائحة رئيس الوزراء السابق اياد علاوي، ومن اجل تقليص عدد الفائزين على لائحة تحالف المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة والمجموعات الشيعية الاخرى المعارضة لعلاوي، وفي حين فشلت الولايات المتحدة في تثبيت علاوي، نجح مسؤولو المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة في ان يتبنوا كل الطروحات الاميركية المتعلقة بالنفط، والخصخصة ووجود قوات التحالف.

وعندما جلس اعضاء لجنة صياغة الدستور لكتابته، كان المسؤولون الاميركيون يحيطون بكل حركة من تحركاتهم، وخارج المنطقة الخضراء دارت المفاوضات في حماية الاف الجنود الاميركيين وغيرهم من قوات التحالف، اما اللاعب الرئيسي فكان السفير الاميركي زلماي خليل زاد، وهو عضو في مشروع» القرن الاميركي الجديد» الذي ظل منذ عام 1998يدعو الى غزو العراق. وتروي مصادر عدة، انه خلف الابواب المغلقة حيث دارت النقاشات الحامية كان وجود خليل زاد طاغياً، مما إضطر احد مسؤولي الخارجية الاميركية لوصف اعمال خليل زاد بـ «الديبلوماسية المكثّفة»، وفي إحدى المراحل عرض فريق خليل زاد من الديبلوماسيين الاميركيين نسختهم من الدستور العراقي. ظل هو يتنقل من اجتماع الى آخر ما بين كبار المسؤولين العراقيين يدعمه فريق السفارة الذي اتخذ من احد المقرات الرئيسية لأحد الاحزاب الكردية مكتباً حيث عمل على طبع نسخ من مسودة الدستور وترجمة التعديلات من الانكليزية الى العربية ليطلّع عليها المشرِّعون العراقيون.

امام هذا التدخل ضاق صدر العضو الكردي في لجنة كتابة الدستور محمود عثمان، حيث قال: يدعّي الاميركيون انهم لا يتدخلون، لكنهم تدخلوا عميقاً، لقد اعطونا اقتراحات مفصّلة، تقريبا نصاً كاملاً للدستور، ان الاميركيين يهمهم الدستور العراقي اكثر من العراقيين، فهم وعدوا شعبهم بإنجازه في الوقت المحدد، وهم والبريطانيون لم يكونوا وسطاء حياديين، بل كانت تسيّرهم اولويات دولهم. واحتج عثمان لان الاميركيين كانوا يختلون بكل عضو على حدة بدل ان يبحثوا الامور مع كافة اعضاء اللجنة مجتمعين، وقد اكد التدخلات الاميركية نيشروان برزاني رئيس حكومة اقليم كردستان اقرب حلفاء اميركا حيث قال: ان الاميركيين والبريطانيين يعملون وراء الستار ويضغطون على الاطراف العراقية بما يجب تضمينه وبما يجب تجاوزه.

لم يكن خليل زاد ظاهراً فقط خلف الستار بل انه قبل 15 آب (اغسطس) الموعد الاول المحدد لإعلان الدستور جاء الى قاعة مجلس النواب العراقي حيث قدمه الرئيس العراقي جلال طالباني بـ «أخي العزيز»، اما وزير الخارجية هوشيار زيباري فقد ناشد الولايات المتحدة لعب الدور الاكبر في وضع مسودة الدستور، مما يعني ان التدخل الاميركي لم يكن غير مرحب به من قبل الجميع. وليدعم مهمة سفيره، اقدم الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش في 24 آب (اغسطس) الماضي على الاتصال شخصياً بزعيم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية عبد العزيز الحكيم وتحدث معه حول الدستور. المهم انه عندما وُضع الدستور بحلته النهائية على الطاولة في 28 آب (اغسطس) الماضي، كانت نسخته مختلفة تماما عن النسخة الاولى التي أُعدت في شهر حزيران (يونيو) الماضي، إذ سقطت منه كل البنود التي تؤّمن العدالة الاجتماعية للشعب العراقي، وأطل من بين سطوره ما جاء به «المندوب الاميركي الاول» بول بريمر وهو: تحقيق طموحات المستثمرين الاجانب. يُلزم الدستور الجديد الدولة العراقية بإصلاح الاقتصاد العراقي حسب اسس الاقتصاد الحديث، بطريقة تضمن الاستثمار الكامل لكل ثرواته وتنويع هذه الثروات وتطوير القطاع الخاص» والاصلاح الاقتصادي يعني خصخصة القطاع العام، وحرية التجارة والسوق، وفتح المجالات للمستثمرين الاجانب، وتجبر مسودة الدستور العراقيين على الالتزام بتحقيق خطوات هذه الاصلاحات، كما ان احد البنود ينص على » ان الدولة ستضمن تشجيع الاستثمارات في مختلف القطاعات«. وتقول المادة 110من الدستور» ان الحكومة الفيدرالية وحكومات المناطق المنتجة الاخرى، ستعمل معا على وضع سياسة استراتيجية لتطوير الثروة النفطية والغاز من اجل مصلحة الشعب العراقي، وعليها بالتالي ان تعتمد على احدث التقنيات في السوق وتشجع الاستثمار«، ويُفهم من هذه المادة انها تشير الى الخطط التي يدعمها كبار المسؤولين العراقيين حالياً، ومنها خصخصة شركة النفط الوطنية العراقية وفتح الاحتياطي العراقي امام شركات النفط العملاقة. قبل الانتخابات النيابية قال عادل عبد المهدي من زعماء المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وأحد نواب الرئيس حالياً، امام تجمع في واشنطن: ان خصخصة قطاع النفط العراقي امر جذاب للمستثمرين الاميركيين وللشركات وعلى الاخص النفطية منها.

ويذكر انه خلال المفاوضات على الدستور دفع عبد العزيز الحكيم بقوة الى إقامة شبه دولة شيعية في الجنوب تتضمن حوالي تسع محافظات من اصل 18، ويسمح الدستور لهذه الدويلات بأن تقرر سياستها النفطية» ضمن حدودها الجديدة«، وان تحتفظ بنسبة كبيرة من عائدات الحقول الموجودة، وان تحتفظ لاحقاً بعائدات كل ما ستطوره من الحقول الجديدة، وقد يكون موقف الولايات المتحدة من الفيدرالية عائداً لكون الاطراف التي ستحصل على النفط العراقي، الشيعة والاكراد، اكدت علناً انها تؤيد وتدعم الخصخصة.

واذا كانت مسودة الدستور التي وُضعت في حزيران (يونيو) ضمنت توفير كل الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية للفرد العراقي، الا ان المسودة الاخيرة اشترطت توفير الخدمات إذا كان في استطاعة الحكومة تحمّل الاعباء، وكان صندوق النقد الدولي اصر على إلغاء الدعم على السلع والخدمات الاساسية التي توفرها الحكومة.

من ناحية اخرى قد يكون الدستور العراقي الجديد، الوحيد بين دساتير الدول الذي يضع محاربة الارهاب من اهدافه الاساسية واذا نظرنا الى ما يجري في العراق حاليا، وكيف بسبب عمليات الارهابيين، يتم وصف المقاومة العراقية للاحتلال بالارهاب، فإن هذا البند يعطي شرعية دستورية للعمليات العسكرية ضد اي قوة سياسية ترفض قبول الاحتلال والعملية السياسية التي تسفر عنه، وسوف تتأثر الولايات المتحدة بسبب هذا البند، فهي لا بد ان تتهم انه في ظل الحرب على الارهاب ستبرر بقاءها العسكري في العراق على شكل قواعد لاحقاً.

مع اقتراب موعد الاستفتاء على الدستور، تجدر الاشارة الى ان اغلبية العراقيين من سنّة وشيعة يعارضون الفيدرالية، وحسب استفتاء قامت به «مؤسسة الجمهوريين الدولية» الاميركية في شهر تموز (يوليو) الماضي، تبين ان 69% من العراقيين يؤيدون حكومة مركزية قوية، و22%= فقط مع اعطاء بعض السلطات للحكومات المحلية، اما في الجنوب العراقي حيث الاكثرية الشيعية فقد ايد 25% الفيدرالية ورفضها 66%. وقبل البدء في المفاوضات حول الدستور، قام البرلمان العراقي بحملة توعية وارسل مجموعة من الاسئلة الى العراقيين، واتفقت اغلبية الاجوبة على انه للعراقيين فقط الحق بإدارة مشاريع الاعمال، واذا سُمح لشريك اجنبي فإنه لا يحق له اكثر من 49%. هذه الاقتراحات أُسقطت من مسودة الدستور الجديد، مما يعني ان «قائمة تمنيات» السفير خليل زاد النفطية بالذات تغلبت على حقوق الشعب العراقي، خصوصاً مع التوقعات التي تشير الى استمرار تصاعد اسعار النفط في السنتين المقبلتين بحيث يتجاوز سعر البرميل الواحد المائة دولار.