البيعة من أجل الوطن

TT

من مكان قصيّ، خارج الوطن العزيز، تابعت على شاشة التلفزيون وقائع الحدث الوطني الكبير أيام البيعة والعزاء.

ربما كان الحديث عن هذا اليوم أمراً تجاوزه الزمن حيث تعاقب الأحداث عليه، إلا أنه يظل، في قناعتي، حدثاً وطنياً محملاً بكمّ هائل من المضامين التاريخية، السياسية والاجتماعية، التي امتزج فيها هذا الكيان الكبير: المملكة العربية السعودية. الأمر الذي يجعل منه حدثاً جديراً بالتوقف عنده، والحديث عنه، والتأمل فيه.

تملّكني شعور بالتأثر والارتياح وأنا أشاهد حشود المواطنين تتوافد على قصر الحكم لتبايع الأمير عبد الله بن عبد العزيز ملكاً على البلاد، والأمير سلطان بن عبد العزيز ولياً لعهده. ودون أن ألتمسه أو أن أعمد إليه، وجدتني مدفوعاً لأن أقارن بين ما أشاهده في قصر الحكم من صور الوقار، وكبرياء النفس، والصدق في المشاعر وما نشاهده عادة في مناسبات مماثلة، في بلاد عربية أخرى، فهذه الحشود من المواطنين لم تحملها إلى قصر الحكم حافلات الدولة، ولم تنظم مسيرتها هيئات الحزب الحاكم، ولم يخرجها منازلها خوف من عيون المخابرات، لم ترفع اللافتات وتجوب الشوارع كي تتغنى بمآثر سيد البلاد الجديد أو القديم، ولم يصدر الديوان الملكي بياناً بأن تسعة وتسعين بالمائة من الشعب السعودي أعلن البيعة والولاء!.

كنت أشاهد على وجوه المواطنين في قصر الحكم حزناً صامتاً، وهدوءاً، ورزانة، وصفاء عقيدة، ويقيناً بأن ما يبايعون من أجله، ويضنون به، ويخافون عليه، هو استقرار هذا الوطن، ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم، وحرصهم على أن يظل وطناً صلباً، صامداً، متماسكاً، وهم يرون من حولهم شعوباً تعاني، وأوطاناً تتمزق، واقتصادات تنهار، يستوي في ذلك من جاء منهم لقصر الحكم ومن ظل ملازماً لبيته، فحب الوطن ليس قصراً على من بادر إلى التواجد والحضور.

البيعة ليست استفتاء على عهد حكَمَ وما يزال يحكم، وليست مفاضلة بين مرشحين. إنها قبول ومباركة لعهد جديد من عهود الحكم الذي يتوارثه ملوك آل سعود منذ تأسيس المملكة العربية السعودية قبل سبعين عاماً.. عهود تعاقبت على حكم البلاد وظلت، على اختلاف الأزمنة وقسوتها، بل ضراوتها أحياناً، قادرة على تأمين وحدة الوطن، واستقراره، ونمائه، وازدهاره ومن حولها بلاد عصفت باستقرارها انقلابات عسكرية متوالية أضاعت أمنها وأمانها، وأتت على خيراتها، وأوردتها مورد الهلاك.

على أن البيعة من أجل وطن أمن مزدهر مستقر ليست تفويضاً مطلقاً لولي الأمر يحكم بما يراه، إنها عهد جليل ثقيل يقطعه على نفسه، يعاهد الله عليه، ويعاهد أمته عليه، بأن يجيء حكمه تأسيساً على كتاب الله وسنة رسوله، يعلي كلمة الدين، يرفع من شأن الوطن، ويرعى مصالح الأمة، يقر هيبة الدولة بإشاعة العدل بين المواطنين والحفاظ على المال العام بالضرب على أيدي العابثين به والمفسدين عليه، والاستعانة بذوي العلم والتجارب من المواطنين الصالحين، والسعي في كل ما يقتضيه العمل من أجل النهوض بالأمانة الثقيلة التي عهد بها إليه. وفي الخطاب الذي وجهه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للأمة، في أعقاب مبايعته ملكاً على البلاد، جاء الملك على الثوابت التي ارتكز عليها منهج الحكم في البلاد، وأكد عزمه على تعزيز تلك الثوابت والأخذ بها في السياستين الخارجية والداخلية، وقطع على نفسه عهداً بأن يعمل على «إحقاق الحق واشاعة العدل في البلاد».

فأعظمْ به من عهد تنوء بحمله الجبال!

انه أنبل وأكرم وأزكى ما يعد به حاكم مواطنيه، فالعدل أساس الملك، به تستقيم الأمور وبغيره تسوء الحال وتصاب الأمة بمشاعر القهر والإحباط.. واهتزاز الولاء.

والمواطن السعودي ذكي في هدوء، ناضج على بصيرة، معتز بالانتماء لوطنه يستحق من قيادته كل أسباب العون والتيسير ورخاء الحياة، وهو يدرك، على وعي، ما يدور حوله في وطنه وفي أوطان الآخرين. والناس يتحدثون في منازلهم في كل شيء، في الصغيرة والكبيرة، فهم يعيشون عهداً من حرية المعلومات، والإنترنت، والفضائيات التي أزالت الحواجز ومزقت الحجب. فانكشف المستور في كل مكان، وتراجعت عهود المحظور من الكلام. وقد أدركت جميع دول العالم هذه الحقائق في حياتها العامة، فبدأت تتعاطى معها بواقعية وارتياح. وعندما يتحدث المواطنون السعوديون المدركون لشؤون بلادهم، فإن أحاديثهم، مهما طالت وتشعبت، تلتقي عند قناعات ثلاث: القناعة الأولى هي الالتفاف على حب الوطن والاعتزاز بالانتماء إليه. القناعة الثانية هي أن وجود الأسرة المالكة، مع الحكم بشرع الله، هو الضأمن ـ بعد الله ـ لوحدة هذا الوطن وتماسكه واستقراره. والقناعة الثالثة هي وجوب تأصيل مبدأ المشاركة في إدارة شؤون البلاد وإبداء الرأي في قضايا الوطن بتوسيع قاعدة اتخاذ القرار، وتهيئة الصحافة كي تمارس دورها في النقد والتوجيه، ترصد هموم المواطن وتعين الدولة بأن تكون لها عين ترى وأذن تسمع. فليس أدعى أماناً للحكم، واستقراراً للوطن، ودفعاً للمفاجآت، من أن يظل الحاكم، أي حاكم، على علم لا ينقطع، ومتابعة لا تهدأ لما يشغل بال المواطنين من هموم تثقل عليهم أو تطلعات تملأ قلوبهم بالتفاؤل والرجاء.

بهذه القناعات الثلاث يشتد ظهر الوطن، ويقوى على مواجهة التحديات، ويكتسب المناعة ضد أهوال المفاجآت..

لقد ورث الملك عبد الله من أخيه الفقيد الكبير الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله دولة مكتملة البناء في نهضة تنموية فريدة في نوعها. كما ورث عنه نهجا في السياسة الخارجية لا يخطئ الاستدلال عليه: مواجهة شجاعة في كل ما يتصل بمقدرات البلاد. وتشاء ارادة الله أيضا ان يباشر الملك عبد الله بن عبد العزيز مسؤوليات القيادة والمملكة العربية في قلب الأحداث. فانتماؤها العربي، وقدرها الاسلامي، وثروتها النفطية الهائلة، تجعل منها، في الشأن الدولي والاقليمي، لاعباً دائم الحضور. لاعباً لا خيار له في الدور الذي يسند إليه. ورغم تعاقب الأحداث الدولية الكبيرة خلال العشر سنوات الماضية، وما أفرزته من تبعات شديدة التعقيد، عسيرة المخرج، فقد أمكن له أن يحتوي آثارها ويجعل المملكة العربية السعودية في مأمن عن مضاعفاتها الخطيرة. واستطاع الملك عبد الله بن عبد العزيز، بوضوح الرأي، والصراحة في ما يقول، والصلابة في مواقف الحق، أن يحقق للمملكة العربية السعودية المصداقية والاحترام، وأن يحقق لشخصه ثقة القيادات العالمية في ما يتعامل معهم به من القضايا المشتركة.

ولأن قلبه عامر بالنوايا الطيبة لإسعاد وطنه وشعبه، فإننا نسأل الله العلي القدير، أن يقرن جهوده بالفلاح والتوفيق، وأن يجعل له من أخيه وولي عهده رجل الدولة الأمير سلطان بن عبد العزيز خير سند وخير معين.

* الأمين العام السابق

لمجلس التعاون لدول الخليج العربية