موت التاريخ والجغرافيا: هيكل وشرعنة الانتقاء

TT

تعددت أحاديث الأستاذ محمد حسنين هيكل على قناة الجزيرة في الآونة الأخيرة، وتراوحت قضاياها من هوية مصر ودورها مروراً بتجربة هيكل في العمل الصحافي والسياسي، وانتهاءً بمجمل أوضاع المنطقة العربية في القرن العشرين وسياسات القوى الكبرى تجاهها. واختار هيكل عنواناً عريضاً لمقولاته وتحليلاته فوصفها أكثر من مرة بأنها «رؤية الجيل الذي أنتمي إليه، الجيل الذي تفتح وعيه مع نهاية الحرب العالمية الثانية واستمر متابعاً أو مشاركاً على درجات مختلفة حتى انتهت الحرب الباردة». نحن إذن أمام شهادة أحد أشهر الكتاب الصحافيين العرب على التاريخ، أو كما يقول هو نفسه «تجربة حياة شهدت أحداثاً جساماً وتطورات حاسمة في تاريخ البشرية» على نحو يستدعي المراجعة النقدية لمضامينها. وأحسب أن الخطوة الأولى على هذا الدرب إنما تتمثل في الكشف عن مرتكزات اقتراب الأستاذ هيكل من قضايا أحاديثه وأبدأ بأخطرها ألا وهي رؤية الجيل.

ينطلق هيكل، صراحةً أو ضمناً، من قناعة مؤداها أن أراءه إنما تعبر في مجملها عن وجهة نظر جيله في تحولات القرن العشرين وتداعياتها على عالمنا مستنداً في ذلك تارةً إلى موقعه المتميز من بين المهتمين بالشأن العام، وتارةً أخرى إلى سنوات عمره المديدة. وعلى الرغم من أنه يشير في بعض الأحيان إلى وجود نفر من أبناء جيله ربما أختلف معه في الرؤية أو التقييم، إلا أن أولئك سرعان ما يستبعدون من الصورة بإيماءات لغوية، توحي بقلة العدد أو ضعف الحجة. يصبح تواضع هيكل حين يشير إلى خبرته الذاتية أو حسن حظه بعبارات من شاكلة «شاء القدر أن أكون هناك» بمثابة شعور إنساني نبيل لا أشك في صدقيته، لكنه لا ينفي مساحة التعميم الهائلة التي تفرضها رمزية الممسك برؤية الجيل. وواقع الأمر أن الحديث عن الأجيال حين النظر في تاريخ الأمم والشعوب إنما هو منهج متعارف عليه فقط عندما يقتصر على تحديد القضايا الكبرى، ويدع جانباً الرؤى والتأويلات المتعددة بطبعها والمتضاربة بحكم اختلاف القناعات والمصالح.

الأكثر من ذلك أن اختزال فكرة الجيل في تحليلات لصيرورة السياسة وتشابكات العلاقات الدولية، حتى وإن امتدت لتشمل ما يربو على قرن من الزمان، إنما يشي بتبسيط مخل يتجاهل حقيقة أن الإنتاج الثقافي والفكري والعلمي ربما كان المؤشر الأدق للتدليل على اهتمامات جيل ما.

لحديث هيكل ركيزة ثانية لا تقل خطورة. فجوهر منطق الإسناد والتدليل لديه شخصاني إلى أبعد الحدود الممكنة. يتمثل مصدر الفكرة باستمرار في شخص زعيم أو رئيس أو كبير من كبراء طائفة الكتاب والعلماء، ربطتهم جميعاً بهيكل علاقات إنسانية متنوعة. وعلى الرغم من حلاوة استرساله حين يذكر أن الرئيس الفرنسي الأسبق ديجول أهداه نصيحة حياتية عندما شدد على العلاقة بين الجغرافية والسياسة، أو إفشاء رئيس وزراء الهند نهرو له بسر قوة الولايات المتحدة (هوليود وأجهزة المخابرات)، إلا أن من حق المتلقي أن يتساءل عن أهمية الزج بأسماء كهذه للإشارة إلى أمور هي أقرب إلى البديهيات أو الشائع المبسط من الآراء. أغلب الظن عندي أن هيكل، وبغض النظر عن رغبته المشروعة كصحافي في إبهار المتلقي، يروم بذلك إضفاء خاتم الحقيقة المطلقة على تحليلاته بالرجوع إلى كبريات شخوص التاريخ التي أسرت له ببواطن الأمور وخبايا السياسة. وهو هنا يعتمد أسلوبا شبيها بنهج الحكائين التقليديين في ثقافتنا العربية، المستشهدين على الدوام بأولي العزم والأبطال حين سرد أحداث التاريخ، على نحو يقضي على ملكة التعامل النقدي لدى المتلقي ويشرعن انتقائية هيكل اللانهائية. ثم يدعم هيكل في خطوة أخيرة منطق الإسناد السلطوي هذا بتوظيف جمع غزير من الوثائق هي في معظمها مراسلات بين حكام عالمنا والغرب، تشي باتفاقات سرية وتفاهمات جد خطيرة. للوثائق بريق جاذب لدى المهموم بالتاريخ، إلا أن وضعها في مصاف المقدسات واختزال واقع مجتمعي مركب في ثنايا سطورها القليلة، إنما هو أمر درج المؤرخون، ومنهم من استشهد به هيكل أكثر من مرة مثل المؤرخ البريطاني ايريك هوبسبوم، على تحاشيه لقدرته التفسيرية المحدودة.

جاءت معالجة هيكل لتاريخ الأسر المالكة العربية العلوية والسعودية والهاشمية في القرنين التاسع عشر والعشرين على سبيل المثال لا الحصر لتدلل بوضوح على المسالب هذه.

تتمثل الركيزة الثالثة لاقتراب هيكل فيما يمكن تسميته بمنهج الحدث الراديكالي أو اللحظة الفارقة. فأفرد مثلاً مساحةً وقتيةً طويلةً لمعالجة حادثة الرابع من فبراير 1942 التي أرغمت بها القوات البريطانية المحتلة لمصر آنذاك ملك البلاد فاروق على القبول بحكومة وفدية، ورأى بها نهاية ثقة المصريين الشعبية في حزب الوفد كطليعة نضالهم من أجل الاستقلال. تعرض أيضاً لحرب أكتوبر 1973 ونظر لاتصال الرئيس الراحل السادات بالولايات المتحدة في يومها الثاني على أنه غير مجرى تاريخ العرب المعاصر. أنا هنا لا اعترض على أهمية الحدثين بعينهما وهي جلية واضحة، ولكن هيكل يتجاهل من جهة سياقات الحدث المعني فيتناسى مقدماته والإرهاصات المفسرة له ويعمم من جهة أخرى فيما يتعلق بتداعياته. أزعم أنه من الصعب الادعاء بأن فبراير 1942ذهب بشعبية الوفد أدراج الرياح، بل ان الذاكرة الجمعية للمصريين ما زالت تختزن الرباط التاريخي بين الوفد والكفاح من أجل الاستقلال والوحدة الوطنية. كذلك لم يكن تقارب السادات مع الولايات المتحدة في عام 1973 سوى تعبير عن قناعات الرجل واستراتيجيته البينة منذ توليه رئاسة مصر.

أخيراً تستند قراءة هيكل للتاريخ إلى مقولة كبرى وحيدة جوهرها توالي انكسارات العرب منذ انتهاء الحقبة الناصرية وحتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أنه ـ وعلى خلاف غيره من المنتمين للفكر العروبي ـ لا يستسيغ كثيراً نظريات المؤامرة ويبحث بدايةً عن علة الداء في عجز مجتمعاتنا قبل التحول إلى منظومات المصالح الغربية، يقع هيكل في خطأين قاتلين: المركزية المصرية وإضفاء القداسة على لحظة مثالية متوهمة في الماضي القريب. من يشاهد حلقات برنامج «مع هيكل» أو يقرأ نصوصها، يكتشف سريعاً أن «زمن التراجع العربي» ما هو إلا تعميم مخل من المحيط إلى الخليج لما يراه هيكل هزائم مصر المتوالية. وبصرف النظر عن اختلاف تقييم تطور أحوال مصر الدولة والمجتمع في العقود الثلاثة الماضية، فإن أخذ أحداثها كنقطة تفسير مركزية لمجمل تحولات عالمنا العربي يشي بذات الشوفينية القومية التي ينتقدها هيكل لدى دعاة مصر الفرعونية، ويتجاهل تعقد حقائق القوة والنفوذ في المنطقة العربية. في هذا الإطار لم يكن الحديث عن فقدان القاهرة لدورها في محيطها الإقليمي سوى بمثابة بكاء على أطلال ماض اتسق به عالم هيكل الواقعي مع قناعاته. فالحقبة الناصرية في قراءة هيكل إذن لا تناقش نقدياً في الأغلب الأعم، بل تثبت كلحظة مثالية غابت عنها التناقضات واستنفرت بها إرادة الأمة العربية على نحو حول هزائمها الكبرى إلى مجرد انسحابات تكتيكية. غني عن البيان أن مثل هذه النظرة الرومانسية، وإن استعذب الكثير من العرب وأنا معهم الإنصات إليها، تحجب وقائع التاريخ ولا تمكن من التعامل الموضوعي مع انجازات ونواقص حقبة مرت.

تعود الجاذبية الطاغية لحديث هيكل اليوم لدى العديد من المتلقين العرب إلى لحظة الغموض والتردد التي يمر بها عالمنا اليوم بين تحول ديمقراطي لا يريد أن يأتي وتنمية بشرية غائبة وقوات احتلال غربية لا تعتزم الرحيل وأعمال عنف لا تنتهي. فالتأمل في ماض يجمل أو تقديم تحليلات تبسيطية تحدد سريعاً المذنب المسؤول إنما هو بمثابة أمر شائع في لحظات الأزمة في كل مكان وما نحن باستثناء. أما عندما يفرض مثل هذا المنهج الزائف ذاته كإطار تفسيري مهيمن يصبح الشروع في تفنيده واجباً على أصحاب الفكر والقلم إنقاذاً لشعوب طال احتياجها لاستيعاب أمين لعبر التاريخ والتعامل النقدي مع تحولاته.

* أكاديمي مصري بمؤسسة كارنيجي للسلام العالمي ـ واشنطن