ما هو الصنم؟ تشريح بنية الوثنية السياسية

TT

جاء في كتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد: (يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج فقال واصل لأهل الرفقة: ان هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني واياهم وكانوا قد اشرفوا على العطب، فقالوا: شأنك. فخرج اليهم فقالوا ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا قد اجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى «وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه» فأبلغوننا مأمننا. فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا: ذلك لكم فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن).

ان هذه القصة تحكي اختلاط الالهي بالبشري والتشدد بالجهل والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الاسلام السياسي) زخمها الحالي ولذا فان (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحة عظامه في قبره لأن مذهبه أعيد إحياؤه مرة اخرى بدون اسم الخوارج.

ان حركة (الطالبان) اليوم تتورط كما يشبه (النيهوم) في كتابه (محنة ثقافة مزورة) في لعبة (مصارعة ثيران) يؤدي فيها الغرب دور المصارع الرشيق صاحب السيف القاتل ويؤدي فيها الطالبان (دور الثور الأخرق الذي يبدأ دوما بالهجوم لكي يموت بعد ذلك امام جمهور يصفق بحرارة، وهي صورة تعالجها وسائل الاعلام الرأسمالي بقليل من النزاهة، رغم المامها بتفاصيل الصورة الحقيقية في استعراض علني لمدى الدجل الذي يستطيع الاعلام الرأسمالي ان يذهب اليه قبل ان يعرف انه الدجال).

ان من السهل ازعاج الاخرين ولا يحتاج كسر قلوب عشرين شخصا اكثر من عشرين اهانة في عشرين دقيقة. ولا حاجة لان تستعدي عليك العالم اكثر من التعرض لمقدساته ولكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الامر وادع الى ربك انك لعلى هدى مستقيم. ولعل (صامويل هنتنجتون) صاحب نظرية (صدام الحضارات) يفرك يديه الآن فرحا وهو يرى (الطالبان) يتطوعون بتنفيذ المهمة مجانا بصدم العالم الاسلامي بالبوذي.

وفي الوقت الذي يعيش الطالبان خارج احداثيات التاريخ والجغرافيا ولا يعرفون ما هي المعاصرة فان مجلة (در شبيجل) الألمانية تنقل لنا انهم ليسوا أول من سن هذه السنة السيئة، بل حصلت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين الاول قام فيه البروتستانت عام 1529 في سويسرا وهولندا والمانيا تحت شعار: ايها الصنم ان كنت الهاً كما تدعي فدافع عن نفسك، وان كنت بشراً فيجب ان تنزف دما بالتصفية الجسدية. ويعلق (بيتر يتسلر مدير المتحف التاريخي في (بيرن): هل كان ما فعلوه جنونا ام ارادة الله حقا؟ وختم كلامه (انه سؤال للضمير في اوربا المسيحية والعالم الاسلامي). والمهم ان اعظم التحف الاثرية في الشمال الاوربي تم نسفها نسفا بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الانساني (ايراسموس) ووصف تلك النزعة التدميرية: (بانها تشبه تدمير طروادة في العصر القديم).

واما التدمير الثاني وكان أشد هولا واعظم مساحة فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الإسبان حيث لا تعلم اوربا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنجلر) ما حدث بهذه الاسطر المأسوية: (فحضارة المايا لم تمت جوعا بل قتلت قتلا وهي في اوج ازدهارها، ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس اذا ما قطع احد المارة تاجها. فكل دول الازتيك بما فيها من قوة عالمية، وموارد اضخم بكثير من الدول الاغريقية والرومانية في زمن هانيبال، ونظام مالي اعد بعناية، وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور، وانظمة ادارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية لا يستطيع الغرب ان يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك... لم تندثر نتيجة لحرب يائسة بل جرفتها خلال سنوات قليلة عصابة ضئيلة العدد من اللصوص، ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها سكان بلهاء لا تحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة. وهكذا ترانا اليوم لا نعرف اسم مدينة من تلك المدن. ولم تعف يد الدمار الا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن احد حتى الآن من قراءتها.

اما أشد مظاهر هذه المأساة ايلاما للنفس وترويعا لها كون هذا التدمير الساحق الماحق جاء وليد نزوات خاصة فاضت بها نفوس اولئك المغامرين. ولم يترام الى مسامع المانيا وفرنسا او انكلترا أي نبأ عما يدور في المكسيك. فعدد قليل من المدافع والبنادق بدأ هذه المأساة وأنهاها).

وقصة الطالبان اليوم تفتح النقاش حول مفهوم الصنم، فما هو؟ قد يكون الصنم حجرا او بشرا او (ايديولوجية). ولكنه يتظاهر دوما بانه متعال ما فوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور ويفرض على العقل الانساني الانصياع والرهبة. لذا وصف الفيلسوف (محمد اقبال) ان الصنم (مناة) تحافظ على شبابها عبر الازمنة: (تبدل في كل حال مناة... شاب بنو الدهر وهي فتاة). قد يكون الصنم (تمثالا) لامعا يمنح البركات، يطوف حوله بشر مغفلون يزعمون انه يشفي العلل ويقيم المشلولين وتحبل العقيم بلمسة منه. أو (بشرا) متعاليا فوق الخطأ ودون النقد، كلماته حكم خالدة، وألفاظه شعارات تعلق في كل الشوارع، وصوره مرفوعة بكل الالوان والاحجام واللقطات حيثما قلب المرء وجهه. أو (ايديولوجية) لا تقبل المراجعة فرضها (كهان) يتمتمون ويرطنون بمصطلحات لا يفهمها المواطن اكثر من فهم زمع الكهان.

أبسط الاصنام ما نحت من الحجر، واعقدها (الايديولوجية) لاختفائها خلف الشعارات في كلمات ما انزل الله بها من سلطان. وقد يمتزج الاثنان في صورة القائد البطل الملهم فترفع له الاصنام على شكل تماثيل شاهقة يطل بها من عل بوجه مكفهر ويد ممدودة الى جماهير مطحونة تعيش كي لا تعيش، مغموسة بالذل لقمتها، ليس عندها قوت يومها، غير آمنة على نفسها، مطوقة بالقلة والقذارة والفوضى، واذا تنفست كان الجو عابقا بجزيئات (رجال الأمن).

عبد أهل الجاهلية الأوثان فأقاموا نصب اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وظن العرب انهم نجوا من موبقة الوثنية ولكن (الصنم) عاد فبزغ من جديد بنسخ مستحدثة مطورة بدهاء عندما غربت شمس (الفكرة). وأقيمت التماثيل العملاقة للينين وستالين وماوتسي تونغ وفرضت ايديولوجيات بنسخ مزورة بقوة السلاح وسطوة رجال الأمن.

يخطئ من يظن ان (الصنم) مرتبط بتمثال من حجر. كما يخطئ من يعتقد ان المشركين كانوا ينكرون وجود الله. كذلك يقع في الوهم من يتصور ان معركة الانبياء التاريخية كانت (تيولوجية) تمعن في الجدل النظري وتدور في حلقات نقاش حول مكان الله. ويخطيء من يظن ان الفرعون المذكور في القرآن هو (بيبي الثاني) الذي عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. لو كان (التمثال) صنما لما عملت الجن لنبي الله (سليمان) عليه السلام محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات. وكان البدوي يتحدث بكل بساطة عن وجود الخالق: (ان البعرة لتدل على البعير وان الأثر ليدل على المسير. سماء ذات ابراج، وارض ذات فجاج، وبحار ذات امواج، ألا تدل على وجود اللطيف الخبير) واختصر القرآن ذلك فقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون).

كما ان معركة التوحيد التي خاضها الانبياء في التاريخ لم تكن في السماء بل في الارض. لم تكن تيولوجية غيبية جدلية لفظية تستخدم ادوات (علم الكلام) بل كانت اجتماعية سياسية تدور حول السلطة والمال والنفوذ والمرجعية. ولذلك كانت طاحنة قاسية هدد فيها الانبياء بالرجم والهجر والاخراج، ودفع البعض منهم حياتهم ثمنا لذلك، وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. كذلك يمكن لأي مجتمع ان يتحول الى فرعوني بلبس مسوحه عندما يتشقق المجتمع الى طبقات ويتحول اهله شيعاً.

انه لا يهم ان يكون الصنم من حجر او تمر او شعار أو حزب أو عائلة او طائفة او طبقة بل نظرتنا اليه. ونحن من نشحنه بالمعنى. والأهم من هذا (السدنة) الذين يقفون خلفه يوحون الى الجماهير زخرف القول غرورا انه يضر وينفع. ويضع ويرفع. ويعتقل ويطلق. ويمنح الوظائف ويمنع. ويغدق المال ويقتر في الرزق. ويستحق الرهبة. ويتوجب له التعظيم ومراسيم الزلفى ومواكب الكذب وخطابات التبجيل والتغني شعرا بأوصافه البهية. والتقدم اليه بالقرابين البشرية في الحروب عندما يأمر الزعيم الجيوش بالزحف للفتوحات.

انها مشكلة اعتقال العقل بالوهم المبين. واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم. ان هذا هو الذي اختلط على (عدي بن حاتم) عندما جاء وهو (مسيحي) فدخل المسجد وصليب معلق في رقبته والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ الآية (اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). ان عدي استفظع الموضوع كيف يتحول الحبر والراهب بضربة واحدة الى رب؟ فشرحه له صلى الله عليه وسلم: (انهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فذلك عبادتهم إياهم).

وعندما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله الى الارض طالب بـ(كلمة السواء) ان لا يتخذ الناس بعضهم بعضا اربابا. وهي ما وصلت اليه الديموقراطية اليوم اي ان يكون للجميع نفس الحقوق والواجبات في مجتمع افقي. فنرى الرئيس الأمريكي (كلينتون) وهو يساق الى المحكمة للتأديب امام شاشات التلفزيون يراها المليارات من البشر. انها ليست رواية عن العهد الراشدي والصحابة. انها واقعة رأيناها بأعيننا. ولكننا نبصر العالم بأعين الموتى. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها. أين الأصنام اذاً هل هي حقا في افغانستان؟

ان اختلاط هذا المفهوم وعدم تحرير العقل منه يجعل الانسان في ضباب كثيف وعطالة في التحرر من الوثنية الفعلية. ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل له الله نورا فما له من نور. الا انه مع الوثنية يعلن الحداد عن وفاة الأمة. وكما يقول مونتسكيو: (الطاغية هو ذلك الذي يقطع الشجرة كي يقطف ثمرة). أو كما يقول (لورد اكتون): (كل سلطة مفسدة وقليل من السلطة قليل من الفساد والسلطة المطلقة فساد مطلق).

لا يمكن لأي سيارة ان تمشي بدون فرامل والا كانت في طريقها الى الكارثة. وسيارات العالم العربي اليوم كلها تمشي بدون فرامل. ان وجود المعارضة فرامل تقي سيارة المجتمع من الحوادث وتحافظ على الجميع. لماذا كانت الوثنية اذا سيئة الى هذا الحد؟ وكان التوحيد القضية الجوهرية التى جاء من اجلها الانبياء وعليه مات بعضهم او طورد الى حافة الصلب فرفعه الله اليه؟ يقول جودت سعيد (ان البشر حين يعظمون انسانا يتحول الى طاغوت والا فلماذا ترسخت الطاغوتية في العالم من امريكا الى اصغر ديكتاتور)... ولفهم الطاغوت قص الله علينا قصة اكبر طاغوت في التاريخ، الذي ترك الاهرامات اكبر الاثار في الدنيا، كل منها قبر لشخص واحد بهذا الحجم. والفراعنة لم يبنوا هذه القبور كفرا بالله ولكن لينجوا في اليوم الآخر.

وقصة فرعون مع موسى من اطول قصص القرآن واكثرها تكرارا حتى لا يبقى شيء من امر فرعون خفيا.. ذكر القرآن اسم فرعون اكثر من سبعين مرة وذكر اسم موسى اكثر من مائة مرة وكيف دربه على الذهاب لمقابلة فرعون وكيف خاف موسى. انها تفاصيل دقيقة مهمة يمكن تحليلها. خطابه الشعوري واللاشعوري وما وراء الكلمات من مسلمات. والمسلمون يلعنون فرعونا خمس مرات في صلاتهم اليومية ولكن الاوضاع السياسية في قسم كبير من العالم الاسلامي تذكر بأيام فرعون (بيبي الثاني) و(كافور الاخشيدي) في شاهد عما تفعله الثقافة في تعطيل اقدس النصوص وان معظم المسلمين يمرون على الآيات وهم عنها معرضون. مما جعل مفكرا مثل (امام عبد الفتاح امام) يسجل هذه الفقرات المشحونة بالتشاؤم في كتابه (الطاغية): (عندما امعنت النظر في مجتمعنا العربي بدت لي نظم الحكم بالغة السوء فعدت الى التاريخ فلم اصطدم الا بنظم اشد سوءا وكلما اوغلت في الماضي البعيد لم تقع العين الا على ما يسوء حتى وصلت الى البدايات الاولى عند البابليين والفراعنة، دون ان اجد مرحلة استطاع فيها المواطن ان يقول بملء الفم هذه بلادي وانا انعم فيها بانسانيتي وكرامتي، واتمتع بجميع حقوقي، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والمشاركة في الحكم وصنع القرار السياسي) لينتهي الى فقرة اشد تشاؤما: (إننا نتقهقر.. ومن هنا فلا تزال الرؤية حتى الآن معتمة والضباب كثيفا واليأس قاتلا والنفس حزينة حتى الموت).

وعندما يحلل (مالك بن نبي) دور الوثنية في اغتيال النهضة في الجزائر يرى ان هناك جدلية متعاكسة بين الفكرة والصنم: (واذا كانت الوثنية في نظر الاسلام جاهلية فان الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس افكارا بل ينصب اصناما ومن سنن الله في خلقه انه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم والعكس صحيح)، ورأى ان الوثنية غيرت لونها فاستبدلت المطالبة بالحقوق بدل القيام بالواجبات، وعدم فهم (الظاهرة السياسية) ومعنى (صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي) وبأن: (الحكومة مهما كانت ما هي الا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه. فإذا كان الوسط نظيفا فلا تستطيع الحكومة ان تواجهه بما ليس فيه. واذا كان الوسط متسما بالقابلية للاستعمار فلا بد ان تكون حكومته استعمارية). ولذا فان ما حصل كان سقوطا: (في احضان الوثنية مرة اخرى.. لقد ورث المكروب السياسي مكروب الدروشة. فبعد ان كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز اصبح يقتني الاصوات والمقاعد الانتخابية). ويبقى السؤال لماذا استطاع الطغاة اعتلاء ظهور شعوب بأكملها وسوقها الى الحروب والكوارث من كل صنف؟ يبدو ان هذا يكمن في طبيعة التحول الاجتماعي عندما يذكر القرآن أن (عبيد الطاغوت) يقتربون في اشكالهم من القردة والخنازير. والتحول هنا ثقافي وليس جينياً بيولوجياً.

اذاعت جريدة (نجم المساء) البريطانية في 31 مارس (اذار) من عام 1846، انه سيكون في الاول من ابريل (نيسان) معرض هام وكبير لكل انواع الحمير في صالة عرض فخمة في غرفة الزراعة بـ(اسلنجتن)، وفعلا جاء الناس وهرعوا الى المعرض زرافات ووحدانا حتى امتلأت بهم القاعة، واخذوا في الانتظار فلما امتد الوقت لم يظهر احد ولم يكن هناك في القاعة الا من حضر عند ذلك ضحكوا على انفسهم الى درجة الاغماء، لأنهم عرفوا ان كان هناك حمير في القاعة فلن يكونوا سوى من حضر. لقد كان اليوم الاول من ابريل المترافق بكذبة نيسان. هل نعيش كذبة نيسان كل يوم؟

* [email protected]