السياسة الدفاعية الأميركية الجديدة وتأثيرها في عملية السلام في الشرق الأوسط

TT

اذن، انها الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، من جديد؟ ام شيء من هذا القبيل؟ وما الطرد المتبادل للدبلوماسيين بين العاصمتين الا الصفحة المكشوفة الاولى من هذه الحرب الباردة الجديدة، اما الصفحات الاخرى فانها تحمل اكثر من عنوان: بيع الاسلحة الروسية لطهران، توسيع حلف الاطلسي حتى حدود روسيا، الدرع الاميركي المضاد للصواريخ، حرب الشيشان. بل انها حرب باردة اخرى على وشك الاندلاع بين واشنطن وبكين، بسبب السياسة الدفاعية الاميركية الجديدة بالنسبة لكوريا وتايوان والضغط على الصين في ما يتعلق بحقوق الانسان. والسؤال الاول المطروح هو: هل دخلت الولايات المتحدة تجربة «ريغانية» او «تاتشرية» جديدة؟ ام ان هذا التصلب السياسي الاميركي الجديد كان منتظرا بعد عودة الجمهوريين الى البيت الابيض؟ اما السؤال الثاني فهو: الى اين تستطيع الادارة الاميركية الجديدة ان تمضي بهذه السياسة؟ وما هي حظوظها في النجاح في وجه ردود الفعل الروسية والصينية والاوروبية والعالمية السلبية، المتحفظة او الرافضة لها؟

لقد تعاقب كبار المسؤولين الاميركيين، في الايام الاخيرة، على الحديث عن «التغييرات في السياسة الدفاعية والخارجية الاميركية». فالسياسة الجديدة تعتمد القاذفات البعيدة المدى والصواريخ المضادة والموجهة وتركز على المحيط الهادئ بدلا من الاطلسي واوروبا بعد تقلص الخطر الشيوعي السوفياتي. كما ان هدفها الاساسي تحول من التدخل في العالم لحفظ السلام الى حماية الشعب الاميركي من اي اعتداء خارجي او ارهاب داخلها. او كما عبرت عنه المستشارة السمراء في البيت الابيض، كوندليزا رايس: «المهم هو الدفاع عن المصالح الاميركية في العالم وليس عن المجتمع الدولي». وقد علقت «الواشنطن بوست» على تصريحات المسؤولين الاميركيين الجدد بقولها: ان الاستراتيجية الاميركية الجديدة ليست انعزالية بل هجومية، من غاياتها ضرب المواقع البعيدة وصد الصواريخ الموجهة على الولايات المتحدة والسيطرة العسكرية على الفضاء.

وغني عن القول ان روسيا والصين ودولا اوروبية عدة ابدت معارضتها لهذه الاستراتيجية الدفاعية الاميركية الجديدة. فموسكو ترى فيها نقضا لمعاهدة 1972 التي حظرت التسابق في الاسلحة النووية. والصين ترى هذه السياسة الدفاعية الصاروخية موجهة مباشرة ضدها. اما الدول الاوروبية، وخاصة فرنسا، فانها ترى فيها تخليا اميركيا عن الحلف الاطلسي او تجاوزا له، بل تأكيدا على رغبة الولايات المتحدة في احكام سيطرتها العسكرية على العالم في القرن الواحد والعشرين، وعودة للتوتر في العلاقات الدولية، وبداية لحرب باردة جديدة بين الشرق والغرب.

وبالرغم من ان وزير الخارجية الاميركي، بدا اكثر اعتدالا في احاديثه عن السياسة الخارجية الاميركية الجديدة، من وزير الدفاع، رامسفيلد، واقل حدة من مستشارة الامن القومي في البيت الابيض، فان حديثه امام منظمة ايباك، كان واضحا بالنسبة لالتزام الولايات المتحدة «غير المشروط والواسع والعميق باسرائيل... والحريص على تفوقها العسكري وعلى ضمان الولايات المتحدة لهذا التفوق.. وان حكومته لن تتغاضى عن تسليح موسكو لايران.. ومقاومتها للعراق ولايران المشجعين للارهاب في المنطقة؟» ولعل النغمة المؤملة الوحيدة في خطاب باول كانت في قوله «ان الولايات المتحدة تدعم حلا شاملا للنزاع العربي الاسرائيلي على اساس قرارات الامم المتحدة ومبدأ الارض مقابل السلام». اما الناحية المحيرة في الموقف الاميركي الجديد من عملية السلام فهو هذا التراجع عن التدخل والتوسط بين الفريقين في مفاوضات السلام وتركها الفريقين يتفقان لوحدهما.

امام هذا التراجع عن التدخل في عملية السلام والتأكيد على التصدي للعراق وايران، ومنع السلاح عن الدول العربية كي تحتفظ اسرائيل بتفوقها العسكري، بماذا تختلف السياسة الاميركية في عهد بوش عنها في عهد كلينتون؟ بعض المراقبين يعتقدون ان موقف الادارة الاميركية الجديدة من عملية السلام مؤقت، وان الادارة الجديدة سوف تعود الى سياسة التدخل والمشاركة في عملية السلام، بعد اقل من سنة. ولكن هناك من يرى غير ذلك، ويربط بين الموقف الاميركي الجديد بالنسبة للنزاع العربي ـ الاسرائيلي واستراتيجيتها الجديدة في العالم. وينصح الدول العربية والاسلامية بالتوجه الى الدول الاوروبية وروسيا والصين، للرد على سياسة الاستعلاء والتراجع الاميركية.

ان هنالك مناخا جديدا للعلاقات الدولية تحاول الادارة الاميركية الجديدة فرضه على العالم، او ان تضع فيه اسسا جديدة لاستراتيجية حماية مصالحها في العالم وللدفاع عن نفسها. ولا ريب في ان اسرائيل والصهيونية العالمية ستبذلان كل ما في وسعهما لاختراق هذه الاستراتيجية الاميركية الجديدة وتسخيرها لخدمة المصلحة اليهودية ـ الاسرائيلية. فهل ستتمكن القمة العربية من الاتفاق على استراتيجية عربية تعطل المساعي الاسرائيلية او تخفف من الانحياز الاميركي لاسرائيل، او تحظى بدعم الدول الاوروبية ودول كبيرة كروسيا والصين، لارغام اسرائيل على تنفيذ قرارات الامم المتحدة؟

ان للنزاع العربي الاسرائيلي وللسلام في منطقة الشرق الاوسط اهميتهما بالنسبة للولايات المتحدة وللدول الكبيرة ولمصالحها الاستراتيجية. ولكن هذه الاهمية تبقى بدون هم حماية الشعب الاميركي من اخطار اي هجوم بالصواريخ عليه من الخارج، او اي عمليات ارهابية في الداخل. والشعب الاميركي رغم رغبته في ان يعم السلام والديمقراطية العالم، حريص على «الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في العالم وليس عن المجتمع الدولي». (كما قالت كوندوليزا برايس). من هنا فان اي قرار عربي يصدر عن القمة العربية، او اي استراتيجية عربية جديدة عليها ان تراعي واقعين دوليين جديدين: السياسة الدفاعية الاميركية الجديدة وتداعياتها في منطقة الشرق الاوسط وعلى دوله، من جهة، وردود الفعل الدولية على هذه السياسة الاميركية، من جهة اخرى. ان اشتراك العرب في الحرب الباردة الجديدة الى جانب روسيا والصين والجبهة الدولية المعارضة الجديدة، كما حصل في الستينات والسبعينات، احتمال مغر، ولكن من شأنه توثيق عرى التحالف بين الولايات المتحدة واسرائيل، في مواجهة الحلف العربي ـ الروسي او العربي ـ الاوروبي، الجديد.

ان الشعوب العربية والاسلامية تطالب انظمتها وقادتها بتقديم مزيد من الدعم والمساعدة للشعب الفلسطيني وانتفاضته. ولكن الدعم بكل وسائله ومن اجل ارغام اسرائيل على التسليم بحقوق الفلسطينيين والانسحاب من الاراضي العربية المحتلة، لا يجوز ان يتحول الى حرب مفتوحة ضد الولايات المتحدة، كما ينادي البعض. كما ان الاصرار على استراتيجية السلام، لا يعني التخلي عن العمل والاستعداد لبلوغ المقدرة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية، لمواجهة التحدي والخطر الاسرائيليين، على المدى الطويل، حتى ولو استجابت اسرائيل للشرعية الدولة وسلمت بالحقوق العربية. ذلك انها معركة طويلة جدا بين العرب واسرائيل، الى ان تتخلى اسرائيل عن العقيدة الصهيونية وعن طموح الهيمنة على الشرق الاوسط، والى ان تتقلص الهيمنة الاميركية على العالم ويستعيد العرب والمسلمون حقهم في تقرير مصيرهم. واذا كان من الصعب جدا، في الظروف الراهنة، تغلب الامة العربية وانظمتها على كل الصعاب والنزاعات والتحديات التي تقف في وجهها، فان هناك عددا من الاوراق الرابحة في يد العرب والمسلمين، ولا سيما في لعبة المصائر الدائرة في الشرق الاوسط. شرط ان تجيد الحكومات العربية لعب هذه الاوراق، وان لا تنساق الشعوب العربية في ردود فعل عاطفية او انفعالية او سلبية، تتحول، فورا، الى اوراق رابحة في يد اسرائيل.