«الخليج: ما الذي حدث في القريب .. ما الذي يُنبئ به البعيد»

TT

كل الحقائق ما هي إلا كشف عن الفكرة وتعبير لها، بمعنى أن الفكر والشيء الواقعي حقيقة واحدة، هكذا كان يعتقد الفيلسوف هيجل، وكأنه بذلك يقول إن الحقيقة النهائية هي العقل، ولا يمكن أن تبلغ تلك المرحلة إلا بعد أن تجتاز مراحل متعددة وسابقة، فما الحقيقة في نهاية المطاف إلا الفكر، وهذا الفكر بذاته هو الذي يقوم بالتفسير العقلي لكل شيء. أتأمل هذه المقولة على الغالب من الأحداث الماثلة أمامي، فتقودني تلك المقولة إلى تحليل الفعل الإنساني (الذي يصدر عادة من العقل)، وهنا لا بد أن استند إلى مذهب المفكر (كانط) المثالي، لا سيما في مسألة القانون الحسّي والخُلقي، ولذلك فإن كل شيء في الوجود يتم بمقتضى قانون، وما يهمني هنا هو تحديد معنى القانون الخلقي، الذي ارتبط بمعنى الإرادة الصالحة (التي يفرضها الواجب) وهي تكون بالتأكيد صادرة عن (العقل) أي لا تكون هناك من ورائه منفعة أو ابتغاء مرضاة أحد أو خشية، بقدر ما يكون الدافع هو الشعور بالواجب. وطالما كانت الإرادة مستقلة ـ هنا ـ فإن النتيجة هي تحقق الخير الخُلقي، والذي يعني أقل ما يعني تحقق الفضيلة والسعادة، وما دمنا ندور في فلك العقل وأثره على النفس، لا بد لنا أن نستحضر ما قاله المفكر الانجليزي كليفورد عن شمولية النفس، وذلك ان لكل إنسان ذاتين، فردية واجتماعية، والصراع يكون بينهما، حيث يتولد الضمير، فيتحقق الخير الاجتماعي (الأخلاقي) الذي يعزز قدرة الجماعة وبقاءها. ولذلك يرى جان جاك روسو، صاحب العقد الاجتماعي، ان الأخلاق لا تتحقق إلا من خلال المجتمع الصالح، ولذا فهو يربط بين السياسة والأخلاق، التي تفرز في نهاية المطاف قانوناً (عقداً) يرتكز على العقل والضمير. والهدف من ذلك المضي في الحياة، وما ادراك ما الحياة، والتي يحفظ نموها ـ على حسب اعتقاد المفكر هيربرت سبنسر ـ هو السلوك الأخلاقي والتعاون وتبعية المنفعة الفردية للمنفعة الجماعية، وهو ما يحقق في نهاية الأمر التطور والتقدم والتفاعل.

هذا الاستهلال الفلسفي كان مطلوباً ـ حسب اعتقاد كاتب المقال ـ لتفسير ما حدث قبل فترة من اسدال الستار على النزاع الحدودي البحريني ـ القطري الذي تجاوزت مدته الستين عاماً.

ولكن ما علاقة الفلسفة وآراء أصحابها بنزاع حدودي قديم؟! لا ثمة علاقة مباشرة، ولكنها (أي الفلسفة) القادرة الوحيدة على التفسير والتحليل وربط العلّة بمعلولها. ولك أن تتأمل في ما ذكرناه آنفاً من مصطلحات ومفاهيم (العقل، الإرادة، الواجب، الخير الاجتماعي، المنفعة الجماعية، الضمير، التطور، التقدم..) كلها تنبثق من الإنسان وتصب فيه، وعندما يرتهن الإنسان إلى العقل من أجل هدف أسمى، تكون الغاية قد تحققت متمثلة في الفضيلة والسعادة (الخير الأخلاقي). فما بالك إذن عندما يتعلق الأمر بمستقبل شعوب وأجيال، ترتبط مصائرها بأسلوب حكامها وآلية تفكيرها (العقل)! لا شك أن المسؤولية كبيرة، ومتى ما اخضعنا هذا الأسلوب للتفكير التأملي ومنهج الملاحظة، لا بد أن نلحظ قدرة الحاكم في التمييز والتقدير، بمعنى انه يعطي الأولوية إلى المنفعة الجماعية (شعوراً بالواجب) كابحاً تطلعات الرغبة الذاتية (الفردية) كما حدث مع الحمدين (أميري البحرين وقطر)، في حين ـ على سبيل المثال ـ تطغى المنفعة الذاتية لدى صدام حسين (رغباته الفردية) على المنفعة الجماعية (متطلبات المجتمع) مما يفسر معنى الحكم الديكتاتوري.

إن ما حدث في لاهاي، يعكس ما يحدث الآن في الخليج، من أن ثمة تحولا في آلية التفكير الخليجية، فاللجوء إلى القانون هو تحكيم (للعقل)، وهذا الفعل الإنساني جاء بإرادة مستقلة (التي يفرضها الواجب) والقبول بحكم لاهاي والترحيب به يحقق (الخير الخُلقي)، بمعنى أن تتحقق السعادة للمجتمع (المنفعة الجماعية). ولعل المثير هنا، ان السياسة وهي فن الممكن تتحول إلى مبدأ والتزام، وهو أمر غير شائع، لا سيما في عصر تكاثرت فيه الخلافات والأزمات، في قضية امتدّ عمرها إلى أكثر من نصف قرن وفي نزاع يمسّ حياة مواطني البلدين الشقيقين، إلا أن (العقل والضمير) لكلا الزعيمين، جسدا تجربة مثيرة سوف تناقشها الأجيال المقبلة بشيء من الدهشة وكثير من الافتخار.

إن التطور والتغير من سنن الحياة، بل من ضروراتها، ولعل ما يؤكد هذه النقطة هي طبيعة العقلية للزعيمين الشابين، حيث أنهت هذه العقلية نزاعاً دام ستين عاماً، ما كان لينتهي لو لم تتهيأ لهما الفرصة، وهذا لا يعني أن الجيل الحاكم السابق كان مخطئاً، بقدر ما أن الظروف والمتغيرات وطريقة التفكير آنذاك تختلف كلية عن أحوال الراهن وطبيعة العصر. وربما أيضاً كان دور العاطفة (القلب) طاغياً على تحكيم القانون (العقل) وفق سياق مبرر في حينه.

وبالعودة إلى حكم محكمة العدل الدولية في لاهاي في ترسيم الحدود البحرية والخلاف الحدودي، الذي كان نهائياً وملزماً للطرفين، نجد أن الإثارة لا تكمن في الحكم بحيثياته المعلنة، بقدر ما أن المفاجأة جاءت في الأسلوب والطريقة للتجاوب مع الحكم الصادر، فالقبول به أُعلن من الطرفين (بإرادة مشتركة)، وأعلنا أن الخلاف أصبح جزءاً من التاريخ ثم لم يلبثا أن أعادا نشاط اللجنة العليا المشتركة بين البلدين والتي جمدت من قبل بسبب الخلاف الذي كان يخبو تارة ويظهر تارة أخرى.

إن الأسلوب الذي عولجت به هذه القضية، وتعامل الطرفين مع نتائجها، يشرع الأبواب لمستقبل مشرق تنتظره شعوب الخليج متى ما استخدم ذات النهج في تحليل الفعل الإنساني (العقل) ووجود (الإرادة المستقلة) التي يفرضها الواجب، لتحقيق الخير الخُلقي (المنفعة الجماعية) لمصلحة شعوب دول الخليج.

بيد أن أبناء هذه الدول يطرحون أسئلة مشروعة وحارقة في آن تتمثل في قدرة بقاء مجلس التعاون الخليجي وإنجازاته، وهو الذي يئن بالمشكلات الحدودية بين أعضائه، فضلاً عن عدم وجود نتائج ملموسة للمجلس تمسّ اهتمامات المواطن الخليجي وعدم تطبيق القرارات الصادرة على أرض الواقع، وعلى أي حال هذه نتيجة طبيعية ومقبولة من حيث منطق الأمور، ناهيك من المفهوم السوسيولوجي (الاجتماعي) والسيكولوجي، فعندما تصطدم الأحلام والآمال بمرارة الواقع، تحدث هزّة لا يتمخض عنها إلا الاحباط واللامبالاة.

غير أن الأحلام التي يتوق إليها مواطنو هذه الشعوب ليست كبيرة كما يعتقد البعض، بل هي بسيطة كبساطة حياتهم ومعيشتهم، تكمن في إلغاء القيود أيا كانت (حدود، جمارك، الاستثمار، العمالة، السوق المشتركة، الرسوم، الضرائب، التنقل بالبطاقة، التملك.. إلخ)، بمعنى أنهم يطالبون بتفعيل التوصيات، التي تتحقق على أرض الواقع، كإنشاء لجان لتنفيذ القرارات ومتابعتها.

إن التقويم الموضوعي لأية قضية، يتطلب الارتهان إلى المنطق ومنهج الملاحظة، مما يحقق النتيجة المثلى في نهاية المطاف، وهذا ما يجعلنا نرى الصورة بوضعها الكائن والشامل، فالانتقاد البنّاء لا بد أن يكون محايداً، بل يجب أن ينزع إلى الحياد النسبي على أقل تقدير، فالمبالغة في المدح أو الذم، تفقد الشيء قيمته، بل مصداقية قائله. ولذا فالتحليل المعرفي عادة ما يحدد هذه القواعد، ويسمي الأشياء باسمها وبحقيقتها وبوضعيتها الراهنة. وبناء على ما ذكرناه آنفاً، نجد أن مجلس التعاون الخليجي نجح نجاحاً واضحاً ـ وان كان نسبياً ـ في مواجهة التحديات والتحولات المفاجئة على الصعد كافة من سياسية واقتصادية فضلاً عن الحربين اللتين اكتوت دول المنطقة بأضرارهما وآثارهما. ورغم كل ذلك بقي الكيان مجسداً، وتوالت القمم رغم المصاعب والمشاكل والمصالح، ولكن تبقى الإشكالية في تركيبة الآلية التي يقوم عليها مجلس التعاون الخليجي.

ولعل ما حدث في لاهاي، يعطي القائمين على المجلس الفرصة لاستغلال الموقف، واتباع النهج العلمي والقانوني (العقل، الإرادة، المنفعة الجماعية) في تحقيق طموحات شعوب وقادة دول الخليج.

إن اللحظة مواتية الآن لتحقيق فيدرالية خليجية، أو البدء بخططها على أقل تقدير، فعلى حد علمي ـ لم يعد هناك أيّ خلاف حدودي بين أعضاء المجلس، وهو ما يكرس البداية لتجسيد كيان فاعل، يستند فيه إلى الأسلوب المعرفي (الابستمولوجي) وفي ظل تقويم موضوعي، بدءاً من الجزئيات الصغيرة وبأسلوب التدرج كما سلكه المجلس الأوروبي.

إن مقومات النجاح لإيجاد فيدرالية خليجية متوفرة الآن أكثر من أيّ وقت مضى، لا سيما بعد زوال التراكم التاريخي المشحون بالخلافات الحدودية. وليس عيباً أن نعترف بالفشل، بل ان الشفافية ونقد الذات والارتهان إلى العقل، هي الكفيلة بتحقيق أحلام الوحدة والتكامل، وفي اعتقادي نحن أحوج ما نكون إلى تكتل، في عصر لا يعرف إلاّ لغة التكتلات، يضمن لنا البقاء والبناء، فلا نخاف من رياح الغد.. والأيام حُبلى على أي حال!