كفاية أنين ونحيب

TT

أثارت في نفسي رسالتان من قارئة وقارئ، موضوع الحزن والنحيب في الغناء العربي. كانت الآنسة بدور قد بعثت اليّ بكاسيت لأغان عراقية. استمعت اليها ثم شكرتها على هديتها مع رجاء في ان لا تكلف نفسها وترسل لي اي اغان عراقية. قلت لها اغاني العراق تثير الحزن والشجن وتبعث الكآبة بالنفس، وهو ما اسعي للهروب منه. ما ان بعثت بشكري ورجائي لها حتى وصلتني رسالة منها تقول ان الغناء العراقي سبب لها كثيرا من الكدر والاكتئاب وقررت عدم الاستماع اليه مطلقا.

اما القارئ الفاضل (لم استطع العثور على اسمه في رسالته) فينتقدني على عدم استماعي لأم كلثوم والغناء العربي عموما. وقبله استغرب قارئ آخر من عدم سماعي لاغنية «ايظن؟» حتى السنة الماضية.

الحقيقة هي انني اتحاشى سماع الغناء العربي كما يتحاشى المتعافى من السل زميله المبتلى بالزكام. فبصورة عامة لا يحمل الغناء العربي الاصيل غير الحزن والكدر. وهو يستجدي عواطفنا بصورة لئيمة ويجرح قلوبنا واعصابنا بنحو اجرامي. حتى ما هو مفرح يحوله المغني العربي الى نحيب. ضم الكاسيت العراقي اغنية لحاتم العراقي يصف فيها والده محملا بالهدايا والشكولاته يعود بعد العمل واطفاله ينتظرونه على الباب. هل من موقف ادعى للفرحة والبسمة من هذا الموقف؟ ولكن السيد حاتم يغني اغنيته بلحن جنائزي وكأنه في مأتم.

بالطبع، وكما تقول رسالة الآنسة بدور، يعكس هذا الحزن مأساة مجتمعنا العربي، وبصورة خاصة التاريخ المأساوي للعراقيين.

ولكن انا مالي؟ انا هربت جسميا، والى حد ما فكريا ايضا من ذلك التاريخ. لا اريد من حاتم العراقي وصحبه ان يلاحقوني الى لندن بنحيبهم وونينهم. لا اريد ام كلثوم ان تعيد الى اسماعي وتكرر آهات والدتي وزخراتها وتأففها من اوجاع الحياة.

تحريك العواطف الحزينة شيء خبيث ورخيص في الغناء العربي، ولا سيما عندما يأتي بشكل هجوم مباشر وشخصي على قلوبنا واعصابنا. لهذا افضل الاستماع الى تلاوات الشعشاعي والشيخ عبد الصمد، اغاني الكرنك والجندول لعبد الوهاب، رباعيات ام كلثوم وبردتها. هذه اصوات عامة كونية تحتضن جمال الكون والخليقة، تسبح بعظمة الخالق وسمو الانسان وروعة الحب.

اذا كان الغناء العربي يعكس ألم المجتمع العربي، فهو يعكس كذلك ازدواجية المجتمع العربي. واذا كانت هذه الازدواجية قد انتجت هذا النفاق في سياستنا فانها انتجت في موسيقانا هذا النشاز الذي اجده مزعجا. المغني يعصر قلبه بآهات اليمة مأساوية والعازف يعزف بايقاع راقص ونغم مزخرف كله فرفشة وجذل.

متى يتعلم ملحنونا على مقابلة الشيء بالشيء، كما كان يفعل سيد درويش وعبد الوهاب؟ السر في هذا التناقض هو ان المغني الذي يئن بألمه ليس له ما يتألم منه، والعازف الذي يرقص بايقاعه ليس له ما يرقص من اجله. وكلها مكاذبة للحياة وانكار للواقع. وتيهان وضلال لكل ما في حياتنا الفنية والفكرية، لا بل وحياتنا العامة ايضا. تيهان وضلال وهذه قطعة اخرى من الاكتئاب العراقي لمن لم يذق ذلك من قبل.