قمة على مرمى حجر.. من الانتفاضة

TT

من محاسن الصدف ان المملكة الاردنية الهاشمية كانت الدولة التي اتاحت لها الابجدية استضافة القمة العربية الدورية الاولى، فالاردن على خط التماس مع فلسطين الدولة المؤمل قيامها، والدولة بدورها على خط التماس مع اسرائيل التي انتهى الأمر بعد نصف قرن من الحروب والتشريد والاقتتال وإهدار المال والسلاح على حساب التنمية والديمقراطية الى التسليم بوجودها دولة شقية وسط تجمُّع دول شقيقة يغلب التنافر على معظمها مع ان عوامل القربى والتآلف كثيرة. ولأن القمة الدورية الاولى اختارت ان يكون الوضع الفلسطيني هو قضيتها الاولى او يكون الواجهة البراقة التي من ورائها وداخل الدهاليز والردهات سيتم في العلن او في الكواليس التباحث في القضايا الاخرى ومنها المصالحة، فإن انعقاد القمة في الاردن هو الانعقاد الافضل وذلك على اساس أن الملوك والرؤساء العرب سيكونون على مرمى حجر من انتفاضة الاقصى المتواصلة بإصرار المؤمنين بقضيتهم المعبِّرين عن غضبهم ومرارتهم واحزانهم وشقائهم واهمالهم بالحجارة يرمون بها شُذَّاذ الآفاق الذين يضيفون ساعة بعد اخرى المزيد من الاستهانة بأمة المئتي مليون عربي وامة المليار مسلم.

ونعتقد انه مجرد ان يلتقي اهل القرار العربي في عمان على مرمى حجر من فتية فلسطين الشجعان رماة الجنود والمستوطنين الاسرائيليين بالحجارة، فإن شعوراً مزدوجاً بالمسؤولية سيحدث وسيكون حدوثه للمرة الاولى. شعور من جانب القادة العرب بأن عليهم نجدة هؤلاء الشجعان ونصرة قضيتهم ومؤازرة نضالهم النابع من ايمانهم، وشعور من جانب فتية الانتفاضة بأن عليهم مواصلة النضال الى ان يرفرف علم دولتهم فوق عاصمتهم القدس وتطمئن المقدسات الاسلامية والمسيحية الى انها باتت في منأى عن عربدة الجنود الاسرائيليين. ومثل هذا الشعور احسوا به قليلاً بعد قمة الاقصى في القاهرة قبل خمسة اشهر، لكن الشعور به هذه المرة مختلف وذلك لأن بينهم وبين اهل القرار مرمى حجر ولأنهم يشعرون بأنهم عندما ستذيع القمة العربية الدورية الاولى بيانها الختامي اليوم بأن عليهم ان يريحوا اياديهم من رمي الحجارة لبعض الوقت كي يصفقوا لأولي الامر القادة العرب الذين كانوا عند حسن الظن كما لم يكونوا بهذا الفيض من الحماسة لهم في القمم السابقة.

ومن حسن حظ الوضع العربي المتأزم ان القمة الدورية الاولى تنعقد في العاصمة الاردنية عمان، وان مضيفها هو الملك عبد الله الثاني الذي اظهر في سنته الاولى من توليه المسؤولية انه كان اهلاً لها وأن الابن اكتسب من والده الراحل الملك حسين المرونة والحنكة والقدرة على ركوب الموجة العاتية عند الضرورة وعلى الانحناءة امام العاصفة الهوجاء عند الاضطرار. ولقد توافرت في المملكة الاردنية وملكها شمائل ومواصفات تجعل مصادفة الانعقاد الاول للقمة الدورية في عمان وكما لو انه اللحظة التي يجب على أولي الامر اغتنامها وتوظيفها افضل توظيف. فالاردن على علاقة طيبة بالجميع، وملكها الشاب اضاف المزيد من التحسين الى الهيبة الاردنية والمزيد من التصحيح للعلاقة مع الاضداد. ثم إن تجانساً كان مفقوداً في العلاقة السورية ـ الاردنية ايام المرحومين الملك حسين والرئيس حافظ الاسد، بات حاضراً ودائم الانتعاش في عهد القيادة الشابة في البلدين الجارين الشقيقين. وثمة مصادفة تدعو الى التأمل، وهي ان غياب الرئيس حافظ الاسد جاء بعد اشهر من غياب الملك حسين.. وهكذا وجد الملك عبد الله الثاني والرئيس بشار الاسد أن عليهما بذل جهد استثنائي لتصحيح مسار العلاقات ما دامت توافرت امام هذه العلاقات رؤية يعززها طموح القائدين الشابين الى ان يسود التفهم علاقاتهما، ومتى وُجد التفهم بطُل التأزم وتوارى الخلاف.

وإلى ذلك ان الولايات المتحدة تطمئن الى احتضان الاردن للقمة الدورية الاولى مهما تنوعت مواد جدول اعمالها وتكاثرت، لأنها تدرك سلفاً ان من يترأس القمة وهو الملك عبد الله الثاني سيبقيها في منأى عن القرارات والتوصيات الصارخة التي يشعر، هُدياً بقاموس المفردات الذي ورثه عن والده، ان الاستراتيجية الاميركية ربما تنزعج منها. وهي لولا ذلك لكانت امطرت القمة سلفاً بالكثير من التحذير والترهيب ولكانت ربما سعت الى تعطيلها. وهكذا فإن القمة الدورية الاولى التي ترفع القضية الفلسطينية راية خفاقة لها لم تعد في نظر الادارة الاميركية بمثل ما كانت عليه قمة بغداد عام 1990 التي دعا الرئيس ياسر عرفات الى عقدها في بغداد فانزعجت الادارة الاميركية من الداعي ومن المستضيف وبعثت الى القمة بشخص الامين العام للجامعة العربية الشاذلي القليبي بمذكرة كانت من الخشونة بحيث انها استفزت الرأي العام العربي واحرجت اصدقاء الولايات المتحدة الذين رأوا في هذا التحذير تدخلاً كثير البشاعة بالخصوصية العربية.

الى ذلك ايضاً، ان القمة الدورية العربية الاولى تنعقد في دولة ارتبطت بمعاهدة سلام مع اسرائيل بينما نسبة الذين يعادون التطبيع بين السكان تصل الى اكثر من 75 في المائة، ومع ذلك فإن المعاهدة صامدة، مما يجعل اسرائيل تنظر بعين الخشية الى مثل هذا المؤتمر، وخصوصاً اذا وجد القادة العرب ان هذه القمة هي فرصتهم المضمونة النتائج لتوجيه تحذير الى الحكومة الاسرائيلية الجديدة، خلاصته ان القبول العربي الراهن بالسلام مع اسرائيل قابل للذوبان في بحر الغضب الشعبي اذا كانت تلك الحكومة وبالذات شارونها لن ترد على الرغبة العربية بالسلام بالمزيد من المرونة ووقف الاستفزاز. وهي مصادفة تلفت الانتباه الى ان القمة الدورية الاولى تنعقد مباشرة بعد تمكن شارون من الوصول الى ترؤس الحكومة في اسرائيل وبعد زيارته الاولى كرئيس حكومة الى الادارة الاميركية الجديدة التي رحبت بمقدمه ايما ترحيب، وكأنما القمة في هذه الحال تنعقد لمواجهة بدء عهد جديد من العلاقة بين اسرائيل الليكودية واميركا الجمهورية، او في الحد الادنى لاستنباط رؤية تقابل هذا التحالف المستهجَن بين حكومة اسرائيلية يترأسها سفاح هو آرييل شارون وادارة جديدة في البيت الابيض من المفترض في رئيسها جورج بوش والطاقم المساعد له، وبالذات وزير الخارجية كولن باول، جنرال حرب تحرير الكويت والعدوان على العراق ونائب الرئيس ديك تشيني ان تكون متفهمة للموقف العربي اكثر من اي ادارة في اميركا خلال اربعة عقود. وهنالك الكثير من الاسباب الموجبة للرد على التحية السيئة للعرب من جانب الادارة الجمهورية بوقفة حازمة تجعلها تتأمل التطورات التي تحدث في العالم وكيف ان روسيا فلاديمير بوتين التي نجحت الى حد ما في استقطاب ايران والعراق وربما سورية قد تنجح في اصابة الوجود الاميركي في المنطقة في عمق قدراته، وقد تستقطب المزيد من الدول العربية الى جانبها، خصوصاً ان الرئيس الروسي هو ابن مؤسسة الاستخبارات في بلده.. ومن تكون هذه حاله يصبح اكثر دراية بنقاط القوة والضعف عند الآخرين. واذا استمرت ادارة الرئيس جورج بوش على النهج الحالي فإن الذي يصيب اميركا في المنطقة هو نفسه ما اصاب الاتحاد السوفياتي عندما استطاع الرئيس الراحل انور السادات عام 1972 ان يهز هيبته وذلك بالغاء المعاهدة المعقودة معه وطرد الخبراء السوفيات وهما من ابرز الاجراءات التي اتخذها السادات اضطراراً رداً على تلكؤ القادة السوفيات في تفهُّم احتياجات مصر ومطالبها على نحو عدم تفهُّم الادارة الاميركية طوال اربعة عقود للمطالب والتمنيات العربية. وكانت الاجراءات الساداتية من بين الاسباب التي ادت الى انهيار الاتحاد السوفياتي بالكامل لاحقاً.

ويبقى ان القمة العربية الدورية الاولى قد لا تجترح المعجزة ولا تحقق الانجازات التي تكون في مستوى طموح الرأي العام العربي، ومنها المصالحة العربية ـ العربية، لكن مجرد انها باتت دورية فإن ما لن يتحقق في القمة الاولى ربما يتحقق في القمة الدورية الثانية في مارس (آذار) المقبل، خصوصاً انها ستنعقد عملاً بالترتيب الابجدي في دولة الامارات حيث رئيسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يقرع الجرس ليلاً نهاراً منذ بضع سنوات داعياً الى المصالحة.. إلا اذا اثمرت القمة التي سيستضيفها الرئيس حسني مبارك الخريف المقبل في القاهرة تحت المظلة الاقتصادية تحقيقا لتلك المصالحة.