تقبيل الأيدي وصياغة الإنسان

TT

روي أن رجلا دخل على هشام بن عبد الملك فقبل يده، فقال هشام: «ما قبلت العرب الأيادي إلا هلوعا»، وكان المأمون يرفض أن تقبل يده، وهو يقول: «إن القبلة من المؤمن ذلة، ولا حاجة لك بها أن تذل»، ويأتي توجيه الملك عبد الله بن عبد العزيز بتجنب تقبيل الأيدي تواصلا مع هذا الموروث، وهو يقول: «إن تقبيل اليد أمر دخيل على قيمنا وأخلاقنا ولا تقبله النفس الحرة الشريفة، إلى جانب أنه يؤدي إلى الانحناء وهو أمر مخالف لشرع الله والمؤمن لا ينحني لغير الله الواحد الأحد»، وقد عبر الملك عن رفضه القاطع لهذا الأمر، وسأل الجميع أن يمتنعوا عن تقبيل اليد إلا للوالدين برا بهما.

وهذا التوجيه يتسق مع شخصية الملك عبد الله وتكوينه النفسي، فمثله يمكن أن يستشعر كرامة الآخرين ويعمل على صون مشاعرهم وتعزيز شموخهم، كما تخوله سماته تلك إلى إدراك أن الحب الحقيقي لا يحتاج التعبير عنه إلى الانحناء وتقبيل الأيدي، بل ربما أدت تلك الأفعال إلى تشكيل صور سلبية حينما يلتقطها الآخر البعيد عن مفهوم مألوفنا الاجتماعي في المنطقة.

وتسرح بي الذاكرة إلى زمن الطفولة حينما كانت تمارس التربية الأسرية قسريتها علينا، وهي تقيس تمام الأدب ومكارم الخلق بعدد الأيدي التي تمتد إلى شفاهنا الصغيرة كي نقبلها في البيت وفي الطريق، وتلك كانت بداية التناقض الداخلي الذي أحسسناه صغارا ونحن نقبل بعض الأيدي التي ليس لها حضورها في عواطفنا ولا معززاتها في وجداننا، ولم يدر أهلنا أنهم بذلك يؤسسون لحالة تباين بين السلوك والقناعات الداخلية، والتي يمكن أن تعلق بعد ذلك في شخصية البعض، فيظهر ما لا يبطن، ويقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول.

ولذا فإن الالتفات لهذه الجزئيات الصغيرة له معانيه الكبيرة، إذ نحتاج تربويا إلى صياغة الإنسان كي يعيش عصره بكل ما فيه من قيم العدالة والحرية والمساواة، وأخال أن على وزارة التربية والتعليم دورا هاما وكبيرا في هذه المرحلة في ظل هذه الأفكار الإنسانية التي يبثها عاهل البلاد في نفوس أفراد مجتمعه، خاصة أنه قد بدأ عهده بالتأكيد على «إحقاق الحق وإرساء العدل وخدمة المواطنين كافة بلا تفرقة»، ولذا فإن على وزارة التربية والتعليم أن تسهم في تحويل هذه الأفكار إلى مكونات نفسية أساسية لدى الناشئة تنعكس على سلوكياتهم وسائر تعاملات حياتهم، فالتربية هي البوتقة التي يمكن أن تنصهر فيها كل الأفكار النبيلة لتشكيل شخصية المجتمع وتأليف منظومة قيمه، ولا أعرف على وجه الأرض شعبا ولا دولة ولا وطنا لم تكن التربية مطيته وصولا إلى واقع أفضل وأجمل وأروع، فهل لوزارة التربية والتعليم القدرة على التناغم مع كل هذه المستجدات والأماني؟ فإن كان الجواب بالإيجاب ففي ذلك حقا ما يحفز على التفاؤل.

[email protected]