ديمقراطية تلد حرباً أهلية

TT

المجزرة التي ارتُكبت يوم الأربعاء قبل الماضي، وراح ضحيتها ما يزيد على المائتي قتيل وأكثر من 500 جريح، تؤكد ان العراق مسرع في اتجاه الحرب الأهلية، وليس كما يقول كثيرون، والرئيس الاميركي جورج دبليو بوش على رأسهم، من أن العراق «في طريقه الى الديمقراطية». وما كان يمكن لمجرم ان يخدع الابرياء بدعوتهم للحصول على عمل، بقصد ان يحصد اكبر عدد من الجثث، وبالأحرى ما كان وجد هذا العدد الكبير من اليائسين الباحثين عن اي عمل، لو ان البطالة في العراق لا تتجاوز الخمسين في المائة، وهذا يرعب الناس اكثر من احتمال سيارة مفخخة يندس صاحبها بين صفوفهم.

صار القتلة يعرفون اين تكمن «رزقتهم»، بين صفوف اللاهثين وراء اي فرصة عمل. وللمزيد من المعلومات المريعة، لا بد من توضيح الصورة الاكثر سواداً. ففي العراق حاليا حوالي 25% من الاطفال دون الخامسة من العمر في طريقهم الى الموت بسبب سوء التغذية، و78% من البيوت 92% (في بغداد)، تصلها الكهرباء ساعات قليلة في اليوم، وفقط 37%من مساكن المدن (وبالكاد 4% منازل القرى) فيها أنظمة لصرف المجاري، وفقط 61% لديها مياه للشرب، وتم تدمير 7% من البيوت بسبب القصف او مهمات التفتيش التي جرت، وواحد من كل عشرة منازل في المناطق الريفية يمكن الوصول اليه عبر طرق معبّدة، وتزداد نسبة الامية بين الشباب، ومع هذا لا يجرؤ احد على سؤال المعنيين من اميركيين وعراقيين في السلطة، عن مصير مبلغ 8.8 مليار دولار من اموال العراقيين، الذي اختفى زمن «ولاية المفوض الاميركي السابق بول بريمر»، ولماذا لم يتم توظيف هذا المبلغ لصالح العراقيين الابرياء، الذين صاروا هربا من مطرقة الفقر المدقع يتجهون بعيون مفتوحة صوب سندان الانتحاريين.

بعد جريمته الموصوفة يوم الاربعاء الاسود، اعلن ابو مصعب الزرقاوي الحرب على الشيعة «اينما وُجدوا في العراق»، وذلك برأيه رداً على الحرب التي اعلنتها حكومة ابراهيم الجعفري «على السنّة في تلعفر»، وحسب منطقه، فإن الحرب الاهلية على الشيعة هي رد على ما يحصل في تلعفر المدينة الشمالية الفقيرة الواقعة وسط الصحراء، ويصل عدد سكانها الى حوالى 200 الف نسمة، 70% من التركمان السنّة، و30% من التركمان الشيعة.

والمأساة الكبرى ان الجهاديين السلفيين الذين عاثوا فساداً في تلعفر، كانوا حوالي المائتين هربوا مجرد ان بدأ الهجوم الذي حوّل لاحقاً المدنيين الى لاجئين.

على كل كانت العملية محكومة بالفشل منذ بدايتها، لأن الجيش العراقي الذي زج به في المعركة كان يتألف من مقاتلي البيشمركة الاكراد، يدعمهم مخبرون من الشيعة التركمان من تلعفر، وفي الحقيقة فإن مهجري تلعفر تركمان، إلا انهم بنظر المهاجمين، متحالفون مع السنّة العرب!.

إذن، الاسلوب هو نفسه دائماً، يهرب الجهاديون السلفيون، وتقوم القوات الاميركية وحلفاؤها من القوات المحلية بعمليات عسكرية ضخمة ضد حفاة وجائعين، وأحيانا كثيرة ضد مدنيين رهائن عند ارهابيين، تماماً كما حصل في الفلوجة، وتلعفر، والقائم بالقرب من الحدود السورية، وقريباً سيحصل في الرمادي، ويهرب الجهاديون السلفيون، يتفرقون ثم يتجمعون. ومهما قيل من تفسيرات وتبريرات لأعمال السلفيين والقوات المهاجمة، فإن النتيجة اذا افترضتا سوء النية، واحدة، يرتكبها الطرفان، اي تطهير عرقي للمناطق السنية، لكن قد يكون من الجنون اذا ظن اي طرف انه سينجح في تفريغ او تدمير المدن السنية، اذا قالت إنها ضد السلطة الجديدة في العراق، وتقع المسؤولية الاكبر على عاتق القوات الاميركية لان «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» يستغل هذه المسألة لأهدافه الجنونية.

في شهر حزيران( يونيو) الماضي، سربت وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية الـ (س.اي. ايه)، تقريراً سرياً الى صحيفة «النيويورك تايمز» جاء فيه ان عراق الرئيس بوش صار مولدا لجيل قاتل من الجهاديين. تزامن نشر هذا التقرير مع تصريحات لوزير الدفاع الاميركي يقول فيها «إنه سعيد بفكرة ان يصبح العراق مجمّعاً للجهاديين»، على اساس انه سيسهُل القضاء عليهم. والصراع الآن اذا جازت المقارنة، هو بين خطط القاعدة في العراق التي تريد ان يبقى غارقا في الدماء ـ وان كان هذا سيطيل أمد الاحتلال ـ وبين من يريد تقطيع العراق الى شمال كردي وجنوب شيعي يسبحان في بحار من النفط، ووسط سني يأكله الجفاف.

المشكلة التي يدفع ثمنها العراقيون اليوم، هي ان تنظيم «القاعدة»، الذي حلّ حديثاً في بلادهم ينوي تطبيق استراتيجية تضمنتها وثيقة تحمل عنوان «عراق الجهاد: الأمل والاخطار»، وتدعو الى تركيز المقاومة ـ حسب تسميتها ـ في المدن والقرى العربية السنيّة، والتعاون الوثيق مع ضباط استخبارات صدام حسين، والهجوم على قوات التحالف والقوات العراقية الجديدة لعزلها، والإبقاء على اجواء الرعب في كل البلاد، وبذل المستحيل لتعطيل ضخ النفط. وتدعو الاستراتيجية الى انشاء شبكة من الجهاديين في المناطق الشيعية لحماية الاقلية السنيّة «عندما تنشب الحرب الاهلية»، وهذا ما يستميت اتباع المسمى الزرقاوي لتحقيقه.

لا يختلف اثنان حول اجرام حكم صدام حسين بحق العراق وأبنائه، اذ انه لم يقصّر في قتل السنّة ايضاً مع ارتكابه المجازر بحق الاكراد والشيعة من ابناء بلده، وما لم يأخذه الاميركيون في عين الاعتبار بحربهم على العراق، ان العراقيين لم يكونوا ليصدقوا ان احداً سينقذهم من صدام حسين، وبالتالي هو لم يبق اياً منهم، القادر على وضع برنامج حكم بديل، على قيد الحياة. ومع تسارع العراقيين الى اقتسام الغنائم، اطلت «القاعدة» المهزومة في افغانستان، واتخذت من العراق منطلقاً لها، لتنفيذ خطة رسمها بعض افرادها وهم في الكهوف المظلمة، واثقين من ان رجلا بإمكانيات الزرقاوي في ذبح الناس سيعتقد انه بجرائمه يسير نحو تطبيقها. الخطة تضمنها كتاب «الزرقاوي: الجيل الثاني للقاعدة»، وضعه فؤاد حسين (ليس معروفاً ما اذا كان الاسم صحيحاً)، وهو يدّعي انه امضى وقتاً في السجن مع الزرقاوي، ثم وصلته معلومات اضافية عن الخطة العالمية لـ «القاعدة» من سيف العدل الرجل الثاني في الجهاد المصري.

الخطة حسب الكتاب على سبع مراحل، الاولى تدعو الى يقظة العالم الاسلامي، والثانية تحوّل «القاعدة» من فكرة الى حركة مقرها الرئيسي العراق ويجب ان تصبح واقعاً عام 2006، على ان تركّز المرحلة الثالثة التي ستستمر حتى 2010 على الجهاد في سوريا وزيادة الهجمات على تركيا، والأردن وإسرائيل، اما المرحلة الرابعة، التي ستستمر حتى 2013 فتشمل «دحر القاعدة لكل الانظمة العربية المدعومة من الغرب»، وضرب منابع النفط لإضعاف الاقتصاد الاميركي، ثم الاعلان في المرحلة الخامسة ما بين 2013 و2016 عن قيام الخلافة الاسلامية، على ان تليها في المرحلة السادسة المواجهة الشاملة ما بين الجيش الاسلامي و«الكفرة» (حسب مفهومهم) في كل العالم، لتحل تفاصيل المرحلة السابعة عام 2020 بانتصار الخلافة وتثبيتها في كل العالم.

ويحتار المرء ماذا يقول امام عقول تفكر «بالمقلوب»، لكن الاستخفاف بهذا الجنون غير مجدٍٍ، لأن العراق الآن صار افغانستان الجديدة، لن يصبح بالطبع مقراً لخلافة الزرقاوي، فقد لا يعيش حتى 2020، هذا اذا لم يزل حياً، انما استبعاد الاميركيين للسنّة العرب من المعادلة العراقية شبيه باستبعادهم الباشتون في افغانستان. ان السنّة العرب يسيطرون على قلب الاقتصاد الصناعي العراقي، كما يسيطر الباشتون على الاقتصاد الريفي الافغاني، ولو انه قائم على تجارة الافيون، وكما الباشتون سيقاتلون لمنع تحويل افغانستان الى ما يريده البنك الدولي، كذلك فإن السنّة العرب ومعهم الكثير من الشيعة سيقاتلون حتى الموت لمنع تحويل العراق الى «جنة» اميركية، لا عدالة فيها تتيح للعراقيين كسب رزقهم.