«إذا سمحت الأحوال الجوية»

TT

لأن للطبيعة الاولوية المطلقة في احكامها تلتزم دولة واقعية مثل بريطانيا باحترام هذه الطبيعة في اي مناسبة تقام في الهواء الطلق، فأصبح رائجا في بريطانيا ربط هذه المناسبات بـ «موقف» الاحوال الجوية أولا. وعليه صار شرط «إذا سمحت الاحوال الجوية» weather permitting مرادفا للقيام بأي نشاط خارجي يعلن عنه مسبقا.

واللافت في قرننا الواحد والعشرين ـ قرن التقدم العلمي بقفزات لا خطوات ـ أن سطوة الطبيعة على النشاط البشري لم تتراخَ، بل تعمقت بحيث تجاوزت النطاق الاجتماعي والاحتفائي للنشاطات البشرية الى النطاق السياسي.. وإذا ما أخذنا في الحسبان نتائج أحدث سطوة للطبيعة، إعصار كاترينا، يتبين ان ما خلفته من أعباء مالية على الخزينة الاميركية قد لا يخلو من ابعاد سياسية ايضا على اعتبار ان احتمال انعكاس هذه الاعباء سلبا على قدرة الولايات المتحدة في الاستمرار بلعب دور الشرطي الدولي لم يعد مستبعدا.

أسوأ ما سببه اعصار كاترينا من اشكالات لادارة الرئيس جورج بوش كان جر الحكومة الفدرالية الى وسط النكبة بشكل بات يربط سمعة ادارته بقدرتها على إزالة آثار الاعصار وأضراره المادية الباهظة بأسرع مهلة ممكنة.

واشنطن خصصت فورا 62 مليار دولار لاعادة بناء المنطقة المنكوبة. أما الاعباء المستقبلية، فلم تعد واشنطن غافلة عنها بعد ان وعد الرئيس بوش، في خطابه ليل الخميس الماضي، بتمويل كل شيء في منطقة الاعصار بدءا ببناء البيوت الجديدة والمدارس البديلة وإقامة البنى التحتية الضرورية، إضافة الى تقديم إعفاءات ضريبية لتشجيع الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة.. أي ان فاتورة «زيارة» كاترينا لولاية لويزيانا قد ترتفع الى ثلاثة أضعاف المبلغ الاولي المخصص لها إذا التزم الرئيس الاميركي بوعده تنفيذ «أحد أضخم مشاريع الاعمار التي شهدها العالم» كما قال. وذلك يساوي، بالارقام، كلفة حرب عراق أخرى، ناهيك عن إثارته لتساؤلات حول مستقبل وعد الادارة الاميركية خفض العجز المتنامي للموازنة وما قد يستتبع ذلك من ضغوط على سعر صرف الدولار.

وبعد ان أثبتت كاترينا أن الطبيعة لا تأبه لشعار بوش القائل بان سياسته الخارجية جعلت الولايات المتحدة «أكثر أمانا» من ذي قبل، واجبرت خزينته على تحمل اعباء توازي اعباء حرب العراق ان لم تفقها.. يجوز التساؤل عما إذا كانت الادارة الاميركية ستضطر الى «ترشيد» انفاقها وبالتالي تقليص التزاماتها العسكرية في الخارج.. واذا كان ذلك لا يستتبع، في الوقت الحاضر على الاقل، خروجا مبكرا من العراق، فقد يعني اعتمادا متزايدا على دور عسكري أوسع لحلف الاطلسي.

ان كان لهذا التطور ثمة حسنة فقد تكون اضطرار الولايات المتحدة الى اتخاذ قرارات التدخل العسكري في الخارج في اطار «التشاور» مع الحلفاء الاوروبيين. ومع استبعاد خضوع قرارات واشنطن الى «قيادة جماعية» في حلف الاطلسي ـ كما تبين في قرار غزو العراق ـ فإن «النصيحة» الاوروبية مرشحة لان تلعب دورا أكبر في صياغة القرارات الاميركية، ودورا متناميا مع تنامي عجز الموازنة الاميركية.

من التبسيط بمكان الزعم بأن «الطبيعة» قادرة على ان تحرم الولايات المتحدة من زعامتها الاحادية، فهذه الزعامة ستبقى قائمة، وان باحجام متفاوتة، حتى داخل اطار أي قيادة جماعية محتملة لحلف الاطلسي.

ولكن كاترينا نبهت الولايات المتحدة، وبطريقة فظة، الى ان الدعامة الاساسية لزعامتها الاحادية، أي جبروتها الاقتصادي، سيبقى، بحكم واقعها الجغرافي والمناخي، خاضعا للشعار البريطاني الشهير: «إذا سمحت الاحوال الجوية».