فاتورة إحالة إيران إلى مجلس الأمن

TT

الأزمة المستمرة وما يرافقها من امتحان للإرادات بين أميركا والترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) من ناحية، وجمهورية ايران الاسلامية من ناحية أخرى، بخصوص برنامج طهران النووي، دخلت مرحلة جديدة. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، السبت الماضي، كان الرئيس الايراني الجديد واضحا للغاية، عندما استنكر «الأبارتايد (التمييز العنصري) النووي» بشدة وأصر على أن ايران، مثلها مثل دول عديدة أخرى غير حائزة للأسلحة النووية، لن تتنازل عن حقوقها غير القابلة للتصرف في متابعة برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم الهادف الى تأمين الوقود الذي تحتاجه لبرنامجها النووي السلمي، وذلك حسب القانون الدولي وبموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية واتفاقات الضمانات الموقعة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتخذ فيينا مقراً لها. وكان وزير الخارجية الفرنسي قال لي بدون مواربة، الاثنين الماضي في نيويورك، ان ايران تتمتع فعلاً بهذا الحق، ومع ذلك، فان أميركا والترويكا تسعى مستقتلة الى منع طهران من ممارسة حقها.

بيد أنه من الواضح أن الحوافز التي قدمتها الترويكا الأوروبية الى طهران لحملها على التعهد بالتخلي عن برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم المبني على الطرد المركزي، لم تغرِ الرئيس محمود أحمدي نجاد. ويبدو أن شدة اللهجة التي اتسم بها خطابه الذي كان الأوروبيون يترقبونه بتلهف جعل الترويكا تلتحق بالموقف الأميركي طويل الأمد الهادف الى احالة ايران الى مجلس الأمن. وهذا بسبب اقتناع ادارة الرئيس بوش، منذ العام 2002، بأن ايران تسعى الى تطوير أسلحة نووية، وهو ادعاء يذكّر بالقناعات الأميركية المتحمسة، في الفترة نفسها، بأن بغداد كانت تمتلك أسلحة دمار شامل.

ومما لا شك فيه أن أميركا، ومعها حلفاؤها، قد تكسب على المدى القصير امتحان الارادات، مع بذلها كل ما في وسعها لتأمين أغلبية من الأصوات في مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي يضم 35 عضواً. وقد تؤدي مواقف دول مثل غانا والبيرو الى امالة التوازن داخل مجلس المحافظين وحسم مسألة ما اذا كانت ايران ستُحال الى الأمم المتحدة، في نهاية المطاف، بالرغم من حقها في تخصيب اليورانيوم، بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، طالما قامت بذلك تحت العيون الساهرة للوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولا بد أن يبلغ مجلس المحافظين أية حالة «عدم التزام» الى مجلس الأمن. وهذا هو ما يمثل أساس موقف واشنطن اذ أنه سبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن وجدت مجموعة من حالات عدم الالتزام، لا سيما فشل ايران في الاعلان عن بعض نشاطاتها النووية، وان كانت هذه النشاطات مسموحة، حسب معاهدة منع الانتشار واتفاقات الضمانات التي وقعتها طهران مع الوكالة الدولية، طالما أنها لا تواصل بصورة خفية. الا أن المشكلة الوحيدة في النقاش الذي تستخدمه واشنطن هي أن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الدكتور محمد البرادعي، كان قد ابلغ عن انتهاكات طهران لالتزاماتها في العام.. 2003! لماذا اذاً السعي الآن لإبلاغ مجلس الأمن عن هذه الانتهاكات بعد عامين من معرفتها؟ فبخلاف الشكوك المتسلطة التي تبديها واشنطن لنظام باتت تحاربه الآن لمدة جيل، لعلّ الاجابة جليّة وذات علاقة بالأزمة التي يمر بها نظام عدم الانتشار. وقد ازداد هذا الأمر وضوحاً، كما أكده الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، مع الغياب المخزي لمسألتي عدم التسلح وعدم الانتشار ـ بإصرار من أميركا ـ من البيان الذي تبناه قادة الدول الذين تجمعوا في الأمم المتحدة، قبل أسبوع.

وكان الدكتور البرادعي كتب في تقريره الأخير المتعلق ببرنامج ايران النووي أن «السلطة القانونية التي تتمتع بها الوكالة في متابعة التحقق من احتمال وجود نشاطات ذات صلة بالأسلحة النووية، محدودة». وبات واضحاً للعيان مدى حدود امكانات هيكلية معاهدة عدم الانتشار ونظام الضمانات التابع لها، الذي تم تطويره قبل 35 سنة، مع السماح للدول بمواصلة دورة الوقود النووي والحصول على المعرفة التقنية لتطويرها. وما ان تتمكن أي دولة من تحقيق هذا الهدف، تصبح مسألة تحولها الى دولة حائزة للأسلحة النووية قراراً سياسياً في الأساس أكثر مما هو قرار له علاقة باظهار براعتها التكنولوجية.

ومن غير المستبعد أن تعبر دول مثل كندا واليابان وألمانيا ـ ولا نسمي غيرها من الدول ـ هذه العتبة بين ليلة وضحاها. الا أن واشنطن لا تبدو قلقة على الاطلاق من هذه الدول. بيد أنها قلقة من جمهورية ايران الاسلامية. فبعد العراق، بات البرنامج النووي الايراني يشكل هاجساً أساسياً بالنسبة للولايات المتحدة. الا أنه، حتى الآن، لا يمكن للادارة الأميركية سوى الشك في «نوايا» ايران، اذ أنها «غير أكيدة من دوافع ايران» بسبب «فشلها في تقديم تصريحات هامة على مدى فترة طويلة» عن برنامجها النووي ومضت في «متابعة سياسة اخفاء حتى أكتوبر 2003». هذا هو جوهر مشروع القرار البريطاني ـ الأميركي المطروح للتصويت في مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهكذا، فان أميركا تسعى جاهدة الى احالة القضية الى مجلس الأمن بناء على «شكوك» لديها. ولا شك أن نجاح واشنطن في مساعيها هذه، لو تحقق، سيؤدي الى انشغال مجلس الأمن، ومعه الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أزمة جديدة، علماً بأن المادة 12 من النظام الأساسي للوكالة الدولية للطاقة الذرية تنص على نقل مجلس المحافظين حالات «عدم الالتزام» الى مجلس الأمن والجمعية العامة.

اذا ما انتقل المأزق الحالي بين أميركا والترويكا الأوروبية من جهة، وايران من جهة أخرى، من فيينا الى نيويورك، لعل واشنطن سرعان ما ستدرك أن حجم الخسارة التي ستلحق بها أكبر من الربح الذي قد تحققه، اذ أن روسيا والصين قد تستخدمان حق الفيتو من أجل افشال محاولات اتخاذ تدابير ما ضد ايران، مما قد يحدث أزمة جديدة في مجلس الأمن. كما أن ايران يمكنها بسهولة أن تبعث بأسعار النفط الى الارتفاع بصورة قد تتعدى نقطة الـ100 دولار قبيل بدء موسم الشتاء، الأمر قد يؤدي الى ركود اقتصادي دولي، لا سيما في ظل ما تعهد به الرئيس الفنزويلي، هوغو تشافيز، الذي تُعتبر بلاده أيضاً من أبرز مصدري النفط، في مارس الماضي، عندما قال ان ايران يمكنها الاعتماد على دعمه في مواجهتها مع أميركا حول برنامجها النووي. وقد تؤدي هذه الأزمة أيضاً الى اثارة الصدمة لدى شيعة العراق وحملهم على التحرك ضد أميركا، عشية الاستفتاء حول مسودة الدستور العراقي. كما أنها قد تسهم في تعزيز مدى صدقية مواقف هؤلاء في العالم الاسلامي ـ وهم كثرـ، والذين باتوا مقتنعين بأن أميركا تسعى ببساطة الى ابقاء الدول الاسلامية في حالة منحدرة. وحسب هذا السيناريو، فان كارثة اعصار كاترينا ستبدو بالنسبة لبوش كابوساً بعيداً.