الوداع.. الوداع

TT

قيل ان رجلاً عجوزاً ادخل إلى المستشفى اثر نوبة قلبية، وانقضت ساعات قبل أن يسمح لزوجته بعيادته، ولما دخلت هالها أن ترى الأنابيب والآلات والأجهزة الموصولة بقلب زوجها وأنفه وأوردته. ومشت بتؤدة نحوه وقبلته وهي تقول: «إني هنا يا عزيزي» وأجفلت على صوت أحد الأجهزة.

وتذكرت ذلك لاحقاً بقولها: «لقد كان على خير ما يرام، ولكم راقني أن أعرف أن قلبه ما زال يخفق لقبلتي بعد 47 سنة من الزواج».

إذا كان ذلك صحيحاً، فكم هو خطير ذلك الحب، ولا شك انه داء عضال أن يستمر متأججاً 47 سنة، بدون أن يتعب، أو يفتر، أو يتلف ولم يعد صالحاً للاستخدام الآدمي.

طبعاً كان الزوج عندما قبلته زوجته لا يستطيع أن يتكلم بحكم خضوعه للأجهزة، وعندما خفق قلبه من شدة التأثر، سمعت الزوجة تلك الخفقة من ردة فعل الأجهزة لها، وفسرتها هي مثلما تريد أو تتمنى، وتصورت أن تلك الخفقة إنما هي خفقة محبة، غير أنها بالمقابل قد تكون خفقة احتجاج أو فزع، وكأنه يريد أن يقول لها: حتى في هذا المكان (انتي ورايا ورايا يا ضبعة؟!)، أقول ان ذلك من الممكن أن يكون احتمالاً ـ خصوصاً أن الرجل لم ينبس ببنت شفة ـ على أية حال أنا من مؤيدي الحب (المعتق)، القائم على مبدأ (قرون الاستشعار) عن بعد، فلا شيء ابعث على الغثيان من التضييق وكتم الأنفاس.. فالبعض مع الأسف يريد أن يعبر لك عن محبته، فيمغص لك بطنك قبل أن يتفوه بأية كلمة.

ولو أن المحبة تقاس بعدد الكلمات، أو الحركات، أو عدد السنين، لكان كل من على سطح هذا الكوكب غارقين في بحور من الغرام، بل وفي (جحيم من القبل).

فحب المراهق للمراهقة معقول، وحب الأشمط للشمطاء مقبول، غير أن غير المعقول ولا المقبول هو تبادل الأدوار والمواقع.. فكم من مراهق تحول إلى عجوز وهو في مقتبل العمر، ودخلته الوساوس والأمراض النفسية، فانطوى على حاله، ولم يعش في جيله.. وكم من عجوز بلغ أرذل العمر، وما زال في عز مراهقته، يمتلئ لسانه بكل الكلمات المعسولة والخادعة بل (والنكات) الخليعة، كما أن قلبه المثقوب من كل الجوانب يمتلئ بالعواطف التي لا تحوم إلا حول المدارس الثانوية.. مثل ذلك الإنسان لا يستحق سوى التشهير به، مع نتف بعض الشعيرات من وجهه، هذا إذا كان في وجهه شعيرات، واغلب الظن أن وجهه يلمع (ويلصف) من الدهن بالكريمات.. انه (بالخط العريض) إنسان غير محترم أكل زمانه وأزمان غيره، وما زال جائعاً لم يشبع، وإذا لم نجد عظمة نلقمه إياها، فعلينا أن نلقمه مجموعة من الحجارة و(حزم البرسيم).

والحمد لله أنني في هذه اللحظة أضع يدي اليسرى على صدري، ولم اسمع ولا حتى (خفقة واحدة) ـ الظاهر أنني (ودعت) ـ أو أنني على وشك، فلم يبق بيني وبين الموت إلا مقدار ذراع، وكلي أمل بأن أعمل ابتداء من هذه اللحظة بعمل أهل الجنة.

[email protected]