بعضها يثري

TT

بدأ عقلي يقلب بأدواته، ومهاراته المتواضعة التي تهيأت له، بل ويستنجد بما ليس في يده، عله يفهم أسباب مناعة الفهم التي تتحلى بها بعض الردود العجيبة، التي عثرت عليها بالصدفة في موقع الكتروني سعودي اسمه دار الندوة، عرف ببعده عن تشنجات التطرف التي اشتهرت بها مواقع أخرى.

أعاد دار الندوة نشر مقالي (تحية العلم) الذي نشر في «الشرق الأوسط» منذ أيام، وفي المقال كنت استعرض حادثة وقعت لي في احد مطاعم جبل لبنان، حين وجهت رئيسة حفل الصليب الأحمر ابني إلى وجوب الوقوف لتحية العلم اللبناني أثناء عزف موسيقى النشيد، من دون أن افطن أنا الأم إلى آداب اللياقة.

الردود العجيبة، كما وصفتها في أول المقال، هي ذاتها الردود التي تقابلها في أي حوار وفي أي مجلس، من نوع (طيب وش عرف هذه المرأة أنكم سعوديون؟!) أما الردود الأكثر سوءا فهي لأصحاب الرؤوس الباردة، الذين يتعالون على النقاش ويدخلون عليك من بوابة اطلاق الحكم النهائي، وتتخيل صاحبه يتجشأ من شده امتلائه بالمعرفة والثقة والشعور بالاكتمال حين يقول (يبدو أننا نحن السعوديين لدينا عقدة نقص من اللبنانيين خصوصا، فلو كانت هذه السيدة من مصر لما شعرت الكاتبة بالحرج لأنها خالفت آداب اللياقة!) الله أكبر صح لسانك يا شيخ!

ويضيف الآخر بعد أن يتجشأ هو الآخر من شده المعرفة، (أرجو أن تضيف لقائمة اللبنانيين.. الإماراتيين أيضا، حيث يشعر السعوديون بعقدة نقص كلما زاروا الإمارات).

وفي خضم مطالبة هذا الجمهور بأن اثبت لهم أنني فعلا لم اختلق القصة ولم أكذب، ثم نصحي بأن أتناول حبوب رفع الثقة بالنفس، والمناعة ضد كل تحضر، لكي تساعدني على عدم الشعور بالحرج فيما لو وجدت نفسي في موقف أكثر تحضرا من ثقافتي أو أنبل خلقا من ممارساتي، ضاعت فكرة المقال وضاعت تحية العلم، ولم يعد يأبه أحد بنقد تأخرنا التعليمي والثفافي والاجتماعي الذي عنيت.

أقول إن ذاكرتي كادت تقع في الخطأ الذي يختصر الحياة على هذا النوع من الحوار، والذي يخطف أول الكلام ليطير بك إلى بحور من الوحل، كلما رفعت قدمك لتعبره غاصت قدمك الأخرى، حتى فتحت ردود القراء في جريدة «الشرق الأوسط» تحت مقالتي «صناع الثقافة الفاشلون»، والتي لم أجد فيها حرفا واحدا يطريني حتى لا يذهب القارئ بعيدا في الظن، بل وجدت مجرد حوار، فبدءا من قراءة أول رد لوليد حبي من الولايات المتحدة، وانتهاء برد محمد المغربي، كدت أضع يدي على أذني وأقول: يا ليل يا عين!. فهذا النوع من الحوار يثريك، والآخر نوع من الحوار تضع بعده المنشفة على عينيك وتنام وتشخر أيضا وكأنك لم تسمع شيئا!

[email protected]